«الجزيرة» - المحليات:
ألقى الدكتور عبد العزيز بن عثمان التويجري، المدير العام للمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة - إيسيسكو-، عرضًا حول موضوع (صورة أوروبا في العالم العربي والإسلامي)، في الاجتماع التحضيري لاجتماع رؤساء الدول الأعضاء في مجموعة أرايولوس، الذي افتتح في فاليتا، واستغرق يومين.
وقال في إحدى جلسات هذا الاجتماع، الذي يشارك فيه بدعوة من السيدة ماري لويس بريكا، رئيسة جمهورية مالطا، إن صورة أوروبا في العالم العربي والإسلامي، لها خلفياتها البعيدة والقريبة، التي منها تتشكل ملامحها، فهي في الجملة، انعكاس للتاريخ المشترك الذي يمتدّ قرونًا متطاولة كانت بدايتها الصدام الطويل المروع الذي وقع خلال القرنين الحادي عشر والثالث عشر الميلاديين (1096- 1272)، في منطقة الشرق الأوسط، الذي دخل التاريخ الإنساني تحت عنوان الحروب الصليبية حسب العبارة التي استعملها الغرب في المراجع التاريخية المعتمدة، بينما أطلق عليها المسلمون آنذاك اسم (حروب الفرنجة).
وذكر أن مناطق عدة في أوروبا دخلت تحت حكم المسلمين لأمد طويل استغرق ثمانية قرون في الأندلس، وفي جنوب فرنسا، وفي بعض جزر البحر الأبيض المتوسط، مشيرًا إلى أن مع ظهور الدولة العثمانية في آسيا الصغرى، امتـَّ الوجود الإسلامي إلى بلغراد وصوفيا وبودابيست ورودوس وأغلب أراضي مملكة المجر وأثينا. وتوسّع الوجود الإسلامي في البلقان، خصوصًا في عهد السلطان سليمان القانوني، الذي عُرف عند الغرب باسم سليمان العظيم، وأن بقاء الوجود الإسلامي في منطقة البلقان طال إلى الفترة التي سبقت الحربَ العالمية الأولى بقليل، حيث انحسر النفوذ العثماني في تلك الأجزاء الشرقية من أوروبا.
وقال: إن الحضور الإسلامي بقي في بعض من تلك المناطق الأوروبية، خصوصًا في ألبانيا، وفيما كان يعرف في السابق بيوغوسلافيا التي انقسمت بعد سقوط جدار برلين وانهيار الاتحاد السوفياتي، إلى دول مستقلة، وإن الوجود الإسلامي الأصيل ما يزال في قسم من أوروبا قائمًا، فجزء مهم من الجمهورية التركية يقع في القارة الأوروبية، وأكثرية مسلمة من أصول أوروبية تعيش في كل من ألبانيا، وكوسوفو، والبوسنة والهرسك، وإن المسلمين يقيمون في جميع الدول الأوروبية دون استثناء، ويبلغ تعدادهم، وفقًا لبعض الإحصائيات، أكثر من عشرين مليون مسلم.
وأوضح أن صورة أوروبا في العالم العربي والإسلامي لم تتغير إلى حد بعيد، فمنذ منتصف القرن التاسع عشر، أصبحت هذه الصورة قاتمة؛ لأنها ارتبطت في الذهنية العربية الإسلامية بالاستعمار الأوروبي، الذي غزا بلدان العالم العربي الإسلامي، فاحتلها وبسط نفوذه عليها، وفتك بشعوبها وسلبها حقوقها وانتهك سيادتها، واستنزف مواردها، وعمل على تمزيق نسيجها المجتمعي، وسعى إلى التفرقة بين طوائف مجتمعاتها، حتى عمَّ الاضطراب والصراعات والنزاعات العالم العربي الإسلامي. وبيَّن أن في ظل الاستعمار الأوروبي لمناطق كثيرة من العالم الإسلامي خلال الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الأولى، عمد الاستعماران الفرنسي والبريطاني، إلى تمزيق العالم العربي، وإلى بسط نفوذهما على المنطقة تحت مسمَـيَـيْـن: (الوصاية) و(الانتداب)، في إطار إعادة رسم خريطة العالم بعد انتهاء تلك الحرب، واقتسام الغنائم بين الدول المنتصرة فيها، وأن ذلك شمل الأراضي الفلسطينية التي ما لبثت أن تم الاستيلاء عليها وتكثيف هجرة اليهود من أوروبا إليها، بدعم وتشجيع من الدول الأوروبية الاستعمارية، الذين أقاموا على القسم الأكبر من فلسطين العربية الإسلامية، دولة إسرائيل في سنة 1948، بعد أن شردوا الشعب الفلسطيني في الآفاق، ثم ما لبثت إسرائيل أن احتلت الضفة الغربية وقطاع غزة في حرب سنة 1967، لتزداد المشكلة الفلسطينية تأزمًا. وذكر أن هذه المشكلة لا تزال تشكل إحدى الأزمات الدولية الكبرى التي عجزت الأمم المتحدة عن إيجاد تسوية لها، على الرغم من مضيّ أكثر من ستة عقود على الاحتلال الإسرائيلي.
وأضاف قائلاً: «إن هذا التاريخ الحافل بالكثير من المآسي والصراعات، أصبح في ذمة التاريخ، ولا ينبغي النظر اليوم إلى صورة أوروبا في العالم العربي الإسلامي من خلاله، حتى لا نبقى أسرى الماضي، ولكن يجب النظر إلى هذه الصورة من خلال الحاضر في أفق التطلع إلى المستقبل. فالمستقبل الذي نستشرف آفاقه الممتدة، هو الذي ينبغي أن يجمعنا اليوم، بحيث نكون حريصين على إعادة بناء العلاقات بين العالم العربي الإسلامي وأوروبا على أسس عادلة وثابتة، في ظل الاحتكام إلى القوانين الدولية، واحترام مبادئ حقوق الإِنسان، وتعزيز قيم التسامح والحوار بين الثقافات والتحالف بين الحضارات وبين أتباع الأديان، وتعزيز التعاون لمحاربة الإرهاب والتطرف والإسلاموفوبيا». مؤكدًا أن هذه هي الوسائل العملية التي إذا ما اعتمدناها، نكون قد ضمنا السير في الاتجاه الصحيح.
وأوضح أن العلاقات العربية الإسلامية-الأوروبية تعرف خلال هذه المرحلة، تطورًا ملموسًا، على جميع الأصعدة سياسيًا ودبلوماسيًا واقتصاديًا وتقانيًا وثقافيًا، ولكن الحوار العربي الإسلامي-الأوروبي في أبعاده الشاملة وأهدافه القريبة والبعيدة، يعرف تراجعًا لا ينبغي أن يستمر، فمن خلال تعزيز هذا الحوار وتقوية التعاون، استنادًا إلى المصالح المشتركة، يمكن أن نتغلب على رواسب الماضي، وأن نرتقي إلى مستويات أعلى من التعاون الدولي الذي يخدم أهداف الأمن والسلم في العالم.
وقال أيضًا إن من الضروري أن نبيّن هنا أن الشعوب في العالم العربي الإسلامي مستاءة من تصاعد موجات الكراهية والعنصرية والإسلاموفوبيا في أوروبا، ولا تتردد في التعبير عن استيائها من السياسات التي تنهجها بعض الدول الأوروبية حيال المشكلة الفلسطينية، وإزاء الأزمات الناشبة في بعض البلدان العربية الإسلامية، ومن أجل تصحيح الصورة وتعميق الثقة، يتعيَّن أن تُرَاعَى المصالح الحيوية للشعوب وأن تُوضع في الاعتبار في جميع الأحوال، موضحًا أن الشعوب هي الأبقى والحكومات تتغير وتَتَدَاوَلُ السلطةَ فيما بينها. وفي المقابل تتخوّف أوروبا من الإرهاب الذي يرفع شعارات إسلامية والإسلام منه براء، كما تتخوف من تدفق المهاجرين واللاجئين الذين يبحثون عن أماكن آمنة بعيدًا عن مناطق الصراع والحروب، مبينًا أن معالجة هذه المشكلات يجب أن تتم في إطار من الموضوعية والتعاون والعمل المشترك، ومواجهة توظيف المخاوف لدى الطرفين توظيفًا أيديولوجيًا، يؤجج المشاعر، ويزيد من الفرقة والتباعد.
وأشار إلى أن الحوار العربي - الأوروبي قد بدأ في السبعينيات من القرن الماضي ولكنه تعثر، وأن الوقت قد حان لانطلاقه من جديد، في أفق التهديدات التي تواجه العالم العربي الإسلامي وأوروبا بوجه عام، من جراء انتشار مخاطر الإرهاب بكل أشكاله، ومن أجل معالجة المشكلات التي تَـتَـزَايَـدُ حدة وكثـرة، وفي سبيل بناء السلام العالمي وازدهار الحضارة الإنسانية الجديدة. واختتم الدكتور عبد العزيز التويجري عرضه بقوله: «نحن في الإيسيسكو حريصون على الإسهام الفعال في هذا المسار، إيمانًا منا بأن ما يجمع شعوب حوض المتوسط أكبر مما يفرقها، وأن على الجميع مسؤولية الحفاظ على السلم والأمن والتعايش الخلاق في ربوعه».