د. سلطان سعد القحطاني
يعتبر عام 1924م، نقطة تحول في الجزيرة العربية، بشكل عام، وفي الحجاز، بشكل خاص، فقد انضم هذا الجزء المهم جداً إلى بقية أجزاء الجزيرة العربية التي أصبحت دولة واحدة تحتل أكبر المساحات، وتربط البحر الأحمر بالخليج العربي، وهذا حدث طالما انتظره كثير من أبنائها منذ العصور الأولى؛ ولم تكن الطاقات البشرية والعلمية موجودة في أي جزء من أجزائها المترامية الأطراف من غير الحجاز، وبالتحديد في كل من (مكة المكرمة، وجدة، والمدينة المنورة) إلا ما كان من بعض دور العلم في الحواضر العتيقة، مثل الأحساء ومكة المكرمة والمدينة المنورة والساحل الجنوبي الغربي، وبعض الحواضر في وسط الجزيرة العربية من حواضر نجد، واهتمام تلك الحواضر كان منصباً على العلوم الدينية وفي مقدمتها حفظ القرآن الكريم. ومن باب أولى أن يكون هناك منجزات تليق بهذا الجزء (مكة والمدينة) وامتيازات خاصة تعبر عن أهميته في الثلث الأول من القرن العشرين، قرن الحداثة والتطور الصناعي والفكري، على حد سواء، واستثمار المخترعات الحديثة في خدمة الدولة الفتية التي لم تعهد الجزيرة العربية دولة وحدت أجزاءها قبل اليوم، من بعد الخلافة الإسلامية، ولم يكن الأمر سهلاً لإدارة هذه الدولة المكونة من جزأين( نجد والحجاز) فأطلق على ملكها (سلطان نجد والحجاز وملحقاتها) حتى تم المسمى الجميل (المملكة العربية السعودية) في 23سبتمبر1932م، ولأن الإعلام هو الصوت العالي للدول وشعوبها، فإن الحكمة التي وهبها الله لرجل هذه الدولة قد مكنته من استثمار ما وجده جاهزاً ينتظر الأمر بتفعيله على أيدي بعض الرجال الذين تحدثنا عنهم في حديثنا عن نشأة هذا الموضوع المهم في القرن الجديد، وهي الصحافة، فالمطبعة الأميرية في مكة جاهزة، والطاقات البشرية المدربة على استعداد تام للقيام بهذه المهمة، ودُور الصحف شبه موجودة، وتأسست جريدة تسمى (أم القرى) مكان جريدة القبلة الهاشمية، وصدر العدد الأول منها يوم الجمعة 12ديسمبر 1924م وأسندت رئاسة تحريرها إلى يوسف ياسين، وهي الجريدة الرسمية للدولة إلى اليوم، وكان شعارها الآية الكريمة {وكذلك أوحينا إليك قرآناً عربياً لتنذر أم القرى ومن حولها} سورة الشورى7، بينما كان شعار جريدة القبلة الآية الكريمة: {وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه...} البقرة، 143، لكنها حذفت من الأعداد التالية احتراماً للقرآن من التعرض للتف والقذارة بعد الفراغ من قراءة الجريدة. وإن الحكمة التي تمتع بها الملك عبدالعزيز جعلت هذه الصحافة تنهض في عهده بسواعد رجالها الذين قاموا بها تحمساً للنهضة الأدبية والعلمية والفكرية لبلادهم تحت قيادة حكيمة، وقد كانت مكة ولا تزال إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها منارة للعلم والهدى، وكان رجالها تواقين دائماً لرفع شأنها بين الأمم، وذلك ما توصل إليه الباحثون من الرعيل الأول، ومن تلاهم من الجيل اللاحق. وفي العهد السابق (الهاشمي) أسس مجموعة من القوميين العرب في جدة صحيفة (بريد الحجاز)، حتى سقوط حكومة الهاشميين -كما ذكرت آنفاً- ودعت الحكمة الاستفادة من طاقمها ومؤسسها، ورئيس تحريرها.
وقد ذكرت فيما مضى الفنيين الذين تدربوا في مصر في العهد العثماني، ولم يبق إلا الإذن من الحكومة الجديدة للبدء في العمل لهذا المشروع المهم في حياة المواطن السعودي، وهي الوسيلة الإعلامية الوحيدة في ذلك الزمن، ومن نافلة القول والأمانة العلمية أن نقول: إن حكمة الملك عبدالعزيز، وتدبير مستشاريه أن احتفظ بالطاقات المنتجة من الرجال الذين لهم خبرات طويلة ودربة على قيادة دفة الدولة، من عسكريين ومدنيين وفنيين، وإن كان بعضهم يدين بالولاء للحكومة السابقة، فقد عفا عنهم وولاهم مناصبهم التي كانوا عليها، فأخلصوا لها كما كانوا مخلصين من قبل، فأعطاهم الأمان وعادوا لممارسة أعمالهم، وأفادوا واستفادوا، فكان منهم المُعارض، وكان منهم الرافض، ولكن عندما وجدوا الأمان عادوا كما كانوا في حكومة الهاشميين، وكان بعضهم ممن شجب أفكار الشريف الحسين بن علي، مثل الشاعر محمد حسن عواد الذي هزأ من أفكار الحسين المتخلفة التي يعتمد فيها على الرمَل والسحر، في كثير من قصائده كقصيدة (الساحر العظيم) لكنه يحارب التدخل الوهابي، على حد تعبيره، وكانت بينه وبين الشاعر محمد بن عبدالله البليهد ردود شعرية، ولهذه الظروف التي هيأت الصحافة السعودية للظهور، وجود القاعدة الصحفية، فورثت صحيفة أم القرى سابقتها (القبلة) وجاء تلامذتها للنشر فيها وإدارتها، وكانت المطبعة مجهزة قبل ذلك، وصحيفة صوت الحجاز، وريثة (بريد الحجاز) بطاقمها، ما عدا رئيس التحرير، الشاعر صاحب مرثية الحجاز، عبدالوهاب آشي، وكان أول رئيس تحرير لصوت الحجاز صاحب امتيازها، محمد صالح نصيف، ولا شك أن هذه الصحافة التي ذكرنا أبرزها وأقدمها، أنها ظهرت لتطوير ما سبقها من صحف كان لها الفضل في وجودها، وما تلاها من صحف تتلمذ أصحابها على روادها ومؤسسيها، على الرغم من شح الموارد وانتشار الجهل في عرض البلاد وطولها وقلة موارد الدولة، وكان لحماس الشباب الحجازي ومن آثروا فيه من أبناء الجزيرة العربية دور كبير، ففي المنطقة الشرقية أسس عبدالكريم الجهيمان في (الدمام) عن مطابع الخط التي أسسها محمد عبدالله الملحوق، صحيفة (أخبار الظهران) واستمرت فترة ثم أغلقت، وأسس عبدالله الشباط مجلة الخليج العربي في الأحساء، وسعد البواردي، مجلة (الإشعاع) في الخبر، وكان من أهم الصحف التي ظهرت (المدينة) وعكاظ، والرائد، وعرفات، وفي الرياض أسس حمد الجاسر صحيفة (الرياض)، وعبدالله بن خميس (مجلة الجزيرة)،غيرها من الصحف، ولا شك أن هذه الصحف قد تطورت بحكم الخبرة الصحفية، وعدد القراء، وانتشار التعليم، والوعي الوافد من البلاد العربية المجاورة.. وإلى اللقاء في الحلقة المقبلة.