قاسم حول
منذ نشأة السينما في العالم عام 1894 على أيدي الأخوين لومير، كانت السينما هي كاميرا مع واقع، فهي أفلام تسجيلية مجردة من الفكرة والحدوتة أو القصة السينمائية أو مقتبسة من الرواية، لأن العالم كان مبهوراً بتحريك الصورة الثابتة فحسب. كان الناس يندهشون في مشاهدة أول فيلم متحرك وهو حركة قطار ووصوله المحطة وصعود الركاب فيه. وكانت صالات السينما وقبلها أجهزة «الكنتوسكوب»، حيث يعرض هذا الجهاز الصور المتحركة ويمكن أن يشاهدها مشاهد واحد. وكانت صالة العرض تضم عددا من هذه الأجهزة ويأتيها الناس بملابس السهرة ليضعوا عيونهم في ناظور الجهاز ويشاهدون كيف يتحرك الواقع على الجهاز الذي صنعه «توماس أديسون» ومن ثم صارت الناس تشاهد هذه المناظر على الشاشة السينمائية حين طور الأخوان لومير شكل العرض السينمائي..
ولقد جاءت فكرة الأفلام الروائية بعد حوالي واحد وعشرين عاما من اختراع فن السينما حين أخرج «جريفث» أو فيلم روائي بعنوان «ميلاد أمة» عن الحرب بين الشمال والجنوب في أمريكا. ومع أن الأفلام الروائية استهوت جمهور المشاهدين والمخرجين على حد سواء. وتأسست صالات سينمائية عملاقة تعرض الأفلام الروائية، لكن فن السينما الوثائقية بقي لفترة طويلة محافظا على نهجه وتأسست صالات تجريبية خاصة بالفيلم الوثاقي. وعندما ظهر التلفزيون أصبح الفيلم الوثائقي أحد مقومات هذا الجهاز. لكن الفيلم الوثائقي التلفزيوني هو غير الفيلم الوثائقي السينمائي بسبب الطبيعة التقنية المختلفة لجهاز التلفاز وجهاز العرض السينمائي.
التلفزيون خطا خطوات تقنية متسارعة لم تكن السينما قادرة على مواكبة التقنيات التلفزيونية، فالسينما فن محافظ لا يمكنه تجزئة الصورة وتفكيكها والتصرف بها بعكس التقنية التلفزيونية وبشكل خاص التقنية الرقمية، فتفوق التلفزيون على السينما في تقنيته وبقيت السينما محافظة ولكن الناس يؤمون السينما بسبب حرية الاختيار وطقوس المشاهدة.
تخصصت في العالم الكثير من القنوات الفضائية التلفزيونية بالفيلم التسجيلي الوثائقي. وكان من أهمها قناة «ناشيونال جيوغرافيك» التي صارت تنتج الأفلام الوثائقية وبأسلوب متطور تقنيا، وصار لها مع الوقت جمهور غفير من المشاهدين.
ولأول مرة صارت القناة تبث باللغة العربية، وقد تبنت دولة الإمارات العربية المتحدة هذه القناة لتبث من أبو ظبي وتملكها شبكة «بي أن العربية»، وتعتبر القناة قناة إماراتية تبث كافة الأفلام التي تنتجها الشركة الأم وتقدم باللغة العربية، وتبث مجانا دونما إشتراك، وقد بدأت بثها منذ شهر يوليو عام 2009 . وهذه القناة كما القناة المركزية تبث البرامج العلمية والجغرافيا والعلوم الطبيعية. في بدايتها كانت تسودها اللهجة السورية بحكم قيام المثلين السوريين بالدبلجة الصوتية، لكن القناة وبدون أسباب سياسية فضلت أن تكون الدبلجة باللغة العربية وقد نجحت في ذلك وبدت أكثر منطقية في علاقة التعليق بالمادة المعروضة
إن دولة الإمارات العربية بكل إماراتها هي دولة ذات مبادرات حضارية متطورة، وكل إمارة من دولة الإمارات العربية المتحدة تملك نهجا مختلقا عن الأخرى فبين إمارة الشارقة ذات النهج الثقافي، وبين أمارة دبي ذات النهج الاقتصادي، تبقى إمارة أبو ظبي الحاضنة الأم لكل الأمارات، ولذا تبث هذه القناة الحضارية والمتحضرة أهم الأفلام الوثائقية وتقوم بدلجتها إلى اللغة العربية ما تقدم للمشاهد العربي خدمة ثقافية لا يمكن الاستغناء عنها.
تتنوع البرامج الوثائقية والتسجيلية التي تقدمها هذه القناة. وصراحة فإنها قناة لا يمكن للإنسان أن يستغني عنها. هي قناة المعرفة والمعرفة العميقة والعلمية في بحثها عن الواقع في أصعب حالاته الطبيعية في الغابات وفي المناطق الاستوائية والمناطق المتجمدة، ولعل الأهم، أنها تسهم في بلورة لغة التعبير السينمائية للفيلم الوثائقي، حيث أن مفردات لغة التعبير في السينما الوثائقية لم تكن واضحة تماما ولم تكن قد عرفت كل معالمها الفكرية والفنية الجمالية، لكن كم الإنتاج قد أفرز الصيغة والنوع وبدت الأفلام الوثائقية ذات لغة تعبيرية شكلت نهج وصيغة الفيلم الوثائقي، ولم تعد الأفلام السينمائية الوثائقية متفردة في جماليات الفيلم الوثائقي سيما بعد أن اتسعت الشاشة التلفزيونية وتطور بث العامل الصوتي للفيلم في شكله المجسم داخل البيت.
تعرض قناة ناشيونال جيوغرافيك من أبو ظبي، كماً من الأفلام التي تقدم المعرفة الحقيقية للواقع وللعالم بشكله المدهش وترتقي بالحس الجمالي للمتلقي، وقد بت مدمنا على مشاهدة هذه القناة .. بالمناسبة هناك مخرجون في تاريخ السينما في العالم لا يعترفون بالفيلم الروائي أصلا، ويعتبرون الفيلم الوثائقي هو السينما بمعناه الفني السينمائي، وليس الريبورتاجي المحض الذي تقدمه بعض القنوات غير المتخصصة بالوثائقية ال سينمائية. وقد بات عدد من المشاهدين يدمنون على مشاهدة الفيلم الوثائقي ويعزفون عن مشاهدة الأفلام الروائية وهم يلتقون بهذا الشكل أو ذاك مع السينمائيين الذين يعتبرون الفيلم الوثائقي هو السينما وليس الفيلم الروائي.