نادية السالمي
من الخاتمة إلى البداية تقفز الحقيقة بخوف وجزع:
عظم الله أجرك في المفردة. فخامة اللفظ وانحلال المعنى أدى إلى انتحارها، قد تكون هذه المفردة من تلك التي وصف حالها، وبث شيئًا من أخبارها في مرحلة متقدمة من ثورتها أحد رواد الفكر والمعرفة العربي القائل: «رب كلمة قالت لصاحبها دعني» على كل حال العزاء في أول صفحة تقابلها حتى لو كانت صفحة وجهك.
المفردة هي الطريق المعبد للموت أو للحياة، فالذي يُمنع من الكتابة لأي سبب كان يموت قبل الموت، لأن هذا ومن هم على شاكلته يتنفسون بهذه المفردات التي تُبنى لتكوّن الجمل والمعاني فيكتمل من خلالها جهازهم التنفسي، وهذه حقيقة صنّاع المفردة وعامة الناس قبلهم.
المفردة هي أداة الجميع للتواصل مع العالم، وخرق العزلة رغم عصر الصورة. فماذا فعلنا بالمفردات وماذا فعلت بنا، ومن منا المظلوم والظالم ؟!.
أسوأ من تصادف في حياتك شخص يتلاعب بعلاقته مع الحروف فيرتبها بجانب بعضها لينتج عنها مفردة ضخمة قد تحيلك إلى جملة بالغَ في ضخامتها حتى أنها لو تربّعت على كوكب الأرض لشعرنا بتأثيرها في عقولنا، وتربّصها بخفقات قلوبنا، كمن ظن أنه أنجز حين جزم وقال: «السجن اصلاح وتهذيب»، ولا يقل عنه صاحبه الآخر الذي يتفنن في خلق الألقاب من العدم فيهبها لفلان، ويطلقها على المشاريع وينادي بها الأمصار، حتى مُلئت دنيانا بالألقاب المعلّقة قبل اسم الإنسان والجماد وحتى الحيوان، هنا لا يهولنك ضخامة المفردة فلو تأملت لوجدت أنها غالبًا عبث من مهوس غرّته علاقته بالحروف فاستسهل خلقها وصناعتها، وخدعه سواد الجماهير التي تتبعه وتصدقه وتصفّق له بواعي وبلا وعي، ونتيجة هذا وفعله وجدنا أنفسنا أمام القاب ضخمة وإنسان أو منجز ضئيل لا يستحق بهرجة المفردات، وزخرف الكلمات. بذات طريقة التلاعب، يلعب من يحوّل الكلمات الحقيقية الحادة إلى كلمات هزيلة بعيدة عن الحقيقة لجهله أو لغاية تضليل المجتمع العربي، فالذي يستدبل «الكيان الصهيوني» بدولة إسرائيل خدعك، والذي بدّل مفردة «مغتصب» بمستوطن غشك، والذي يردد عرب إسرائيل لا «عرب الأراضي المحتلة» دخل في اللعبة وخدع وانخدع، والذي يسمي «جيش الاحتلال» بجيش الدفاع الإسرائيلي لا يلعب فقط بالمفرادت، بل بمصير أمة العرب عن بكرة أبيها، وهذا حتمًا بموجب منطقه، يطلق على «الأسير» معتقل وسيتمر في لعبه حتى تربض على صدره تلك الكلمات التي خلقها، وسيموت تحت سطوتها وسلطتها وإن طال به المدى.
وأضعف لاعب بالحروف، وأسهل من بمقدروك كشفه هو من يحشو قضيته بكلمات نابية ليحشد لها الرأي العام فهذا عليك فورًا حبسه في إطار الشك، فسلامة فكره وعدالة منهجه تدعو للقلق، وعليك وضع ألف علامة إستفهام على سوء فعله ونجاسة لسان مفرداته وإن كانت قضيته عادلة.
ميت من لا يمارس التلاعب بالمفردات:
حقيقة لا يحجبها الظلام من منا لا يمارس هذا التلاعب فكلنا يمارسه، حتى من هو بعيد عن الكتابة، فنصنع من الحروف قلادة يبدع في تصميم لمعانها الشعراء ويحيك قوامها عامة الناس للصديق والعدو فنسعد ويسعد الصديق ونغيض العدو، وقد تتلبّسه حتى يكفّن بها، وهي تتشكل بين ضخمة وضئيلة، وبيضاء وسوداء وأعزو هذا لمهارة التلاعب بالمفردات وعمق العلاقة معها، ومكانة المعني وقربه وبعده، وتبقى الحقيقة أننا نصنع المفردات وتصنعنا، وقد تقضي علينا فهي لعبة النار، ولكن هذه المفردة لها ميزة قد تحسب لها لا عليها فهي تبقى بعدنا وبدوننا _ مالم تنتحر نتيجة تصرفاتنا الرعناء_ لتكمل عذابنا أو خلاصنا، فتتحدث عنا بخير أو بشر ..يبقى هذا من صنع أيدينا.