د. أبو أوس إبراهيم الشمسان
تردد في وسائل الاتصال الاجتماعي مقطع تمثيلي عن محاورة بين الحجاج بن يوسف الثقفي وغلام من الخوارج، ورد فيه «بيّض الله وجهك»، والمقطع يورد في سياق تصحيح معنى الدعاء، ولا يعلم غرض من أورده، آلتصحيح أم الاستظراف والتسلية، حتى تردد في بعضها تحريم استعمال هذا التعبير خوفًا على المخاطب، وبغض الطرف عن غرض الناشرين لن نعدم من يتوهم الخطأ في استعمال الناس وأن المعنى الحقيقي ما أوضحه الحجاج، والقصة في أصلها طويلة والحوار طويل، أجتزئ منها بالآتي «وقد أمرت لك بأربعة آلاف درهم. فقال الغلام: لا حاجة لي بها، بيّض الله وجهك وأعلى كعبك؟ فالتفت الحجاج إلى جلسائه وقال: هل علمتم ما أراد بقوله: بيّض الله وجهك وأعلى كعبك(1)؟ قالوا: الأمير أعلم. فقال الحجاج: أراد بقوله: بيض الله وجهك العمى والبرص، وبقوله أعلى كعبك: التعليق والصلب»(2).
قول الغلام تورية، أي إخفاء، فالكلام له معنى ظاهر يدركه كل أحد ومعنى باطن لا يدركه إلا لَمّاح فطن، وأما المعنى الظاهر فهو ما يفهم من الفوز والفلاح، وهو معنى مجازيّ ضده السواد المقترن بالخيبة والخسران، وقد جاء هذا الاستعمال في قوله تعالى {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ}[آل عمران-106]، وليس بياض الوجه بياضًا حسّيًّا؛ إذ يقال لأسود البشرة «بيّض الله وجهك». ومصداق ذلك « أَنَّ رَجُلًا أَسْوَدَ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي رَجُلٌ أَسْوَدُ مُنْتِنُ الرِّيحِ، قَبِيحُ الْوَجْهِ، لَا مَالَ لِي، فَإِنْ أَنَا قَاتَلْتُ هَؤُلَاءِ حَتَّى أُقْتَلَ، فَأَيْنَ أَنَا؟ قَالَ: «فِي الْجَنَّةِ» فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «قَدْ بَيَّضَ اللَّهُ وَجْهَكَ، وَطَيَّبَ رِيحَكَ، وَأَكْثَرَ مَالَكَ»»(3). ومثل هذا الاستعمال المورّي ما ذُكر عن أحد شيوخ الفقه ورواة الحديث في قرطبة، قيل «وكان جار من النصارى من وجوه الخدمة، يقضي حوائجه، ومتى مرّ بدار الشيخ وقف به، فيهشّ إليه الشيخ ويدعو له، بأن يقول له: أبقاك الله وتولاك. أقرّ الله عينك. يسرّني ما يسرك. جعل الله يومي قبل يومك. لا يزيد على هؤلاء الكلمات. والنصراني يبتهج بذلك. فعُوتب الشيخ في ذلك، فقال: إنما هي معاريض، عرف الله نيتي فيها، فأما قولي أبقاك الله وتولاك، فأريد بقاءه لغرم الجزية، وأن يتولاه بعذابه. وقولي أقرّ الله عينك، فإني أريد قرار حركتها بشر يعرض لها، فلا تحرك جفونها، وقولي يسرني ما يسرك، فالعافية تسرني وتسره. وأما جعل الله يومي قبل يومك، فيوم دخولي الجنة قبل دخولك النار»(4).
إذن فقول الناس «بيّض الله وجهك» و»أقرّ عينك» استعمالان عربيّان موروثان بالدلالة التي يريدها الناس، وأما استعمالهما في التورية فشأنهما شأن أي تركيب أو لفظ يستعمل ذلك الاستعمال، وهو كثير في طرائف المعاصرين وخاصة في مصر المشهورين بالطرافة والنكتة، ومن ذلك ما روي من طرائف كوكب الشرق (أم كلثوم)، قيل «كان لأم كلثوم جارٌ من كبار القوم ثقيل الظل، يحضر إليها دائمًا في فيلتها الشهيرة بالزمالك ويظل جالسًا لا يغادر المكان ولا بالطبل البلدي، وفي أحد الأيام جاء إليها هذا الثقيل وكان عندها الشاعر أحمد رامي والملحن رياض السنباطي، فأراد الضيف الثقيل أن يتبسط معها فقال وهو يسلم عليها «إزيك يا ثومة» وكأنه أحد المقربين منها ولا كلفة بينهما، فرحبت به أم كلثوم ثم قامت بتقديم ضيوفها إليه فقالت: هذا ملحن ثومة، وهذا شاعر ثومة، ثم أشارت إلى جارها الثقيل وقالت لهما: وهذا جار ثومة»(5) [وتنطق «جار ثومة» بلهجة القاهرة: جرثومة].
وهذه التورية والطرافة قرينة البديهة، أنكر أحد الطلاب استعمال أستاذه الفعل (يميز) بتخفيف الياء، قال: لم لا تقول يُمَيِّز؟ فرد عليه بقوله تعالى{لِيَمِيزَ اللّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ}[الأنفال-37]، ومثل هذا جواب علي عبدالواحد وافي لشيخ أعمى أنكر عليه القول بالمجاز في القرآن؛ إذ تلى عليه قوله تعالى {وَمَن كَانَ فِي هَـذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا}[الإسراء-72].
ويستفاد من المشترك اللفظي في التورية كأن تقول عن مسودة كتاب إنه يستحق النشر، فالمتبادر أنك تقصد الطباعة؛ ولكن يجوز أن تقصد أن ينشر بمنشار ويقطع، أو أن ينشر نشر الموتى فيحيا بعد موت هو الإهمال والنسيان.
وقد اتسع هذا الاستعمال في تعابير غير لغوية كالرسوم الكاريكاتورية، ومن أشهر من استعملها (كحيل) في صحيفة القبس، رسم بمناسبة تعيين السيدة مادلين أولبرايت وزيرة خارجية لأمريكا صورتها على هيأة بومة؛ وهم يتفاءلون بالبومة وأما العرب فيتشاءمون بها، وبمناسبة تصويت مجلس الأمن لقرار محاربة جيش صدّام حسين الذي عارضته اليمن وكوبا رسم علامة النصر وكتب على إحدى الأصبعين (يمن) وعلى الأخرى (كوبا)، ولذا يمكن أن يقرأها القارئ: يمنكوبا، أي: (يا منكوبة). وتفنن الرسامون في رسوم تتيح مظهرين للمشاهد ومن أشهرها رسم قد تراه سيدة عجوزًا أو فتاة جميلة. وبالجملة فدلالة اللفظ معتمد فيها على مقاصد المتواصلين وفهمهم.
... ... ...
(1) جاء في (لسان العرب) «والكَعْبُ: عُقْدَةُ مَا بَيْنَ الأُنْبُوبَيْنِ مِنَ القَصَبِ والقَنا؛ وَقِيلَ: هُوَ أُنْبوبُ مَا بَيْنَ كلِّ عُقْدتين؛ وَقِيلَ: الكعبُ هُوَ طَرَفُ الأُنْبوبِ الناشِزُ، وَجَمْعُهُ كُعُوب وكِعابٌ».
(2) هاني الحاج، ألف قصة وقصة من قصص الصالحين والصالحات ونوادر الزاهدين والزاهدات، المكتبة التوفيقية، ص 356.
(3) أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم الضبي النيسابوري، المستدرك على الصحيحين، تحقيق: مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية – بيروت، ط1، 1411 – 1990م. 2: 103.
(4) أبو الفضل القاضي عياض بن موسى اليحصبي، ترتيب المدارك وتقريب المسالك، تحقق: سعيد أحمد أعراب 1981-1983م.، مطبعة فضالة - المحمدية، المغرب، ط1، 6: 304.
(5) انظر: http://www.masress.com/veto/1149932