د. فهد بن علي العليان
في سنواته الأخيرة ينزل صاحبكم من طائرة قادمة من شمال المملكة ليركب طائرة أخرى ذاهبة إلى الجنوب. فرضت طبيعة العمل أن يهدأ قليلاً ثم يعاود السفر والترحال، لا من أجل السفر لكنها (المسؤولية المجتمعية) التي أتاحت له أن يلقى أهل الشمال، ويلتقي بأهل الجنوب. يذكر ويتذكر وليس له أن ينسى أنه استقبله في إحدى محافظات شمال المملكة ثلاثة يتسابقون إلى إكرام ضيفهم، يختصمون من أجل الفوز بالقادم إليهم، حينها غلفه الحياء لكنه الكرم الذي لا يغادر هؤلاء الكرام. ركب السيارة مع أحدهم وهو يردد مع الشاعر قوله:
أُضاحِكُ ضَيفي قَبلَ إِنزالِ رَحلهُ
وَيُخصِبُ عِندِي وَالزَمانُ جَديبُ
وَما الخِصبُ لِلأَضيافِ أَن تُكثِرَ القِرى
وَلَكِنَّما وَجهُ الكَريمِ خَصيبُ
من خلال هذه الرحلات المتعددة، قابل أناساً من مختلفي الطبقات والأعمار، صحبهم وصاحبهم في لقاءات يطول بعضها ويقصر، لكنه في إحدى زياراته، كان لزاماً عليه أن يذهب مع زميله إلى المحافظة التي تبعد عن المطار مسافة ساعة ونصف تقريباً، وحينها استقبله شابان لا يتجاوزان عمر ابنه الأكبر، وبدأت وقتها تدور في رأسه أسئلة: كيف تنقضي هذه المسافة مع شابين ليس بينه وبينهما علاقة مشتركة؟ وفي دقائق معدودة حسم صاحبكم الأمر؛ فليس له أن يستسلم بل عليه - وهو جزء من طبعه وطبيعته - أن يتحدث معهما، وأن يفتح موضوعات مشتركة، يقضي بها وقته معهما. دارت في ذهنه بشكل سريع عدة خيارات: الشعر، الرياضة ، الحياة، ثم قرر أن يلج من باب الرياضة؛ وهو الباب الفسيح لمختلف فئات المجتمع، وفعلاً بدآ الحديث عن ذلك؛ حيث يملك صاحبكم مخزوناً لا بأس به. انتهى الحديث ولم ينته الوقت؛ فكانت الفرصة السانحة للانتقال للشعر فقال:
أنورت سودة عسير بطلعتك
وازهرت من وطيتك خدانها
اجتمع ورد الجنوب وبسمتك
والهوى هيمان في وديانها
ثم انطلق الشابان يسوقان الشعر ويقولانه، ووقف صاحبكم يسمع ويستمع، يطرب ويستمتع بالشعر والشعور والمشاعر، ثم يدور الحديث عن الحب والمحبة ويطول: متى يكون الحب قبل الزواج أم بعده؟ فتأتي المفاجأة أن أحدهما كان يتحدث وينطق بحب، شعر الجميع أن آهاته تقاوم منحدرات طريقنا مع إحدى (العقبات) الجنوبية. ثم يؤكد هذا الشاب قائلاً: ما فائدة الحب والمحبة بعد الزواج؟ فكانت المبادرة السريعة لسؤاله: يبدو أنك تحب؟! أنا يا سيدي تزوجت من أحببت وعشقت. قالها والسرور باد على محياه، فكان مبتهجاً وأبهجنا. الجميع تنحدر السيارة بهم بين الجبال، ويشعرون مع حديثه أنهم يقفون على البحر، يسمعون أمواجه الهادئة مع كل كلمة (حب) يذرفها لسانه. صاحبكم الذي كان يفكر في الوصول ويستثقل رحلة السيارة أصبح يتمني ألا تنتهي الرحلة مع شابين أحدهما يقود السيارة وكلماته تتحدث كرماً وترحيباً، والآخر بجواره يحلق بنا في فضاءات الحب، ولا يملك حروفه وهو يتحدث عن محبوبته وذكرياته. الدقائق تمشي سريعة وصاحبكم لا يريد أن ينتهي الحوار فيتجرأ بالسؤال: هل لديك أولاد؟ فيجيب: نعم، قلبي تملكه (هيام). فلم يتمالك صاحبكم نفسه: هل لي بسؤال آخر وأخير؟ على أن تجيبني بصراحة، ولك الحق في الامتناع عن الإجابة.. تفضل يا ضيفنا. هل أطلق الاسم (هيام) عليها قبل الزواج أم بعد ولادتها؟ ابتسم والتفت ثم قال: ما أعجبك! أطلقنا الاسم (هيام) عليها أثناء لقاء القلوب وقبل لقائنا. ساد الهدوء داخل السيارة والبسمة والابتسامة على شفاه (أبو هيام) ثم غاب عنا يفكر!
وقالوا كَثيرًا
بأنِّي أُمَثِّلُ أدوارَ عِشقٍ
وأنِّي أُجيدُ الكلامَ الجميلْ
وأنِّي أُحبُّ وأَنسَى كَثيرًا
وعِندي لكلِّ حَبيبٍ بَديلْ
وأنِّي مُجردُ وَهْمٍ
ويَمضي
وأترُكُ خَلفَ هَوايَ
قَتيلْ
فلو كانَ ضِدِّي لَديهِمْ دَليلٌ
فعندي لِحُبكِ
ألفُ دَليلْ
فَهُم يَعلمونَ كما تَعلمينَ
بأنَّكِ وَحيُ الكلامِ الجميلْ
وأنَّ هَواكِ بِشُطآنِ قَلبي
سَينمو ويَكبُرُ
مِثلَ النخيلْ
وصلنا، ودخلنا القاعة، ثم تواصلنا، والحديث والأحاديث عن (حال المحبين)، وهكذا حال المحبين.
أفسحوا الطريق للمحبين.