عندما يكون المركز الوظيفـي للفرد وعمله فـي المجتمع مبنيًا علـى أساس مستواه التعليمـي فإن ذلك يدل على اتخاذ المجتمع مبدأ الاعتماد علـى كفاءة الفرد في تقديم الوظائف. أما إذا كان المبدأ الاعتماد علـى أساس عرقي وغير ذلك من المعايير الاجتماعية فلن يتنافس أحد علـى تحقيق النجاح والتفوق. فمبدأ التمييز بين شخص وآخر بمعيار الكفاءة والمستوى الفعلـي للفرد يعنـي وجود مبدأ المساواة وتكافؤ الفرص بين الناس. فالشخص الذي يعـي مبدأ المساواة، ويثق بوجوده فـي المجتمع، ويطمح إلى التفوق وتحقيق الذات، يقبل علـى التنافس بشدة. وعكس ذلك يعني عدم إقبال الطلاب علـى التعليم بشكل جيد؛ إذ لن تكون لديهم ثقة بأن تفوقهم سيفتح لهم فرصًا حقيقية للحصول علـى العمل المناسب فـي المجتمع علـى أساس مبدأ المساواة وتكافؤ الفرص. وقد ذكرت في مقال سابق بمجلة المعرفة بعنوان (4 ساعات تنجح، 5 ساعات ترسب) أن الطلاب اليابانيين هم من أكثر الطلاب في العالم إقبالاً على الدراسة، وهذا ما تؤكده المقولة اليابانية الشهيرة: يونطو غوراكو- yontoo goraku (أربع ساعات نجاح، خمس ساعات رسوب)، أي أربع ساعات نوم تعني النجاح بينما خمس ساعات نوم تعني الرسوب. أي لتحقيق النجاح لا ينبغي النوم أكثر من أربع ساعات في اليوم! لأنهم تعلموا أن السبيل للوصول إلى وظيفة مرموقة الاجتهاد والمثابرة لتحقيق القبول بمدرسة ثانوية مرموقة، ومن ثم جامعة مرموقة. فعلى خريجي المدارس المتوسطة اجتياز امتحانات صعبة للالتحاق بالمدرسة الثانوية، ثم بعد ذلك الجامعة التي يقع اختيارهم عليها؛ إذ إن دخول المدارس الثانوية والجامعة يتوقف في المقام الأول على نتائج امتحانات القبول وليس فقط على نتائج امتحانات المدارس المتوسطة أو الثانوية. والالتحاق بالمدارس الثانوية الحكومية يكون بناء علـى كل من تقرير المدرسة المتوسطة ونتيجة امتحان القبول علـى مستوى المناطق والمقاطعات، كل حسب منطقته الجغرافية. وفـي حالة المدارس الثانوية الأهلية يكون بناء علـى امتحانات قبول خاصة بهذه المدرسة الأهلية فقط. أما بالنسبة لشروط القبول بالجامعة، فمن حق أي خريج ثانوي أن يلتحق بالجامعة التـي يرغب فيها بشرط اجتياز امتحان القبول الخاص بها. وهنا يجب الإشارة إلى أن الامتحانات تقيس القدرات والمهارات الحقيقية للطالب وليس القدرة التحصيلية وحفظ المعلومات فقط. وقد أصبح القبول بالجامعات الحكومية منذ عام 1979م بناءلـى امتحان عام مشترك، وامتحان آخر خاص بكل جامعة علـى حدة، بعد أن كان يعتمد علـى امتحان قبول خاص بالجامعة فقط. وفـي حالة الجامعات الأهلية يعتمد القبول فيها علـى امتحان خاص بهذه الجامعة فقط دون امتحان عام مشترك. وهكذا، نظام الالتحاق بالمدارس الثانوية والجامعات فـي اليابان لا يعتمد علـى وجود المؤهل الدراسي السابق فقط، بل علـى اجتياز امتحانات قبول تنافسية لاستقطاب الطلاب المتميزين؛ وبالتالي إيجاد تعليم جامعي ذي مخرجات نوعية عالية. وكلما كان الشعور بالمساواة والوعـي التنافـسي قويًّا أصبح من الضروري إجراء تقييم الطالب بشكل عادل وموضوعـي. وهنا يعتبر معيار درجات الامتحان - خاصة التحريري - معيارًا موضوعيًّا مقبولاً لدى الجميع، ويصبح من الطبيعـي اعتماد الامتحانات معيارًا أساسيًّا فـي القبول بمرحلة تعليمية جديدة. ومن أجل ذلك ترسخت ظاهرة التنافس بين الطلاب؛ ما أدى إلى رسوخ ظاهرة ما يعرف بجحيم الامتحانات (juken jigoku). وليس غريبًا أن يخوض الطالب امتحانات القبول مرات عدة بالجامعة التي يرغب فيها بالرغم من أنه يستطيع دخول جامعة أخرى أقل مستوى، أو ليست على رغبته. ويرجع هذا التكالب على الجامعات الكبرى إلى أن القبول بإحدى هذه الجامعات يؤمّن للطالب الحصول على وظيفة مرموقة. ومن المعتاد أن يلتحق خريجو هذه الجامعات بالشركات الكبرى والهيئات الحكومية التي توفر لهؤلاء الشباب مزيدًا من التدريب في مجال عملهم؛ بإرسالهم إلى بعثات خارجية أو داخلية لمزيد من الدراسة في مجالات تتعلق بالعمل.
ومن ناحية أخرى، شكلت ظروف هذا التنافس الدراسي والنتائج التـي تترتب عليه هاجسًا مشتركًا للجميع، ينتج منه ترتيب لهؤلاء المتنافسين داخل المدرسة الواحدة، وبين المدارس من حيث المستوى والتجهيزات والمرافق التعليمية، وعدد المتفوقين بها والمقبولين منها بالجامعات أو الشركات. ولا شك فـي أن هذا التنافس الدراسي يمثل إحدى السمات المهمة للإنجاز التعليمـي فـي اليابان. ولا شك كذلك في أن هذه البيئة التنافسية العادلة مع وجود المساواة، ومن ثم الإنصاف، تساهم في بناء شخص يعتمد على نفسه، ويبذل جهده لتحقيق ما يريد. وعلـى صعيد آخر، تترتب على هذا التنافس الشديد سلبيات تؤرق المسؤولين عن التعليم فـي اليابان؛ لما يمثل له من ضغط نفسـي هائل علـى الطلاب؛ إذ يحرمهم من تمضية وقت اللهو والاستمتاع بالراحة بشكل كافٍ؛ لانشغالهم بالاستذكار والاستعداد للامتحانات؛ ما يسبب الكثير من حالات التوتر العصبـي بسبب الخوف من الفشل. ولكن الامتحانات أو ما يعرف بجحيم الامتحانات، بما يحمل من إيجابيات وسلبيات، هو مصطلح راسخ في المجتمع الياباني، ويرتكز إلى سمتين ثقافيتين: أولاً: مبدأ التنافسية. ثانيًا: مبدأ المساواة والوعـي بالترتيب فـي هذا التنافس. فنظام الامتحانات الفعلـي بشكل خاص فـي اليابان يقوم علـى أساس مبدأَي المساواة والتنافس فـي الوقت نفسه. فإذا تم التأكيد أو التركيز علـى جانب التنافس الحر فقط علـى أساس القدرة الفعلية للشخص سيكون هذا اعترافًا بمبدأ اختيار مدارس النخبة. وعلـى العكس؛ إذا كان التأكيد علـى مبدأ المساواة يفترض صعوبة الاعتراف بالاختيار الحر للمدرسة أو الجامعة علـى أساس القدرة الفعلية أو المستوى الحقيقـي للطالب. ولكن فـي الواقع، الالتزام بمبدأ المساواة يؤدي إلى التنافس الحر المبني على القدرة الفعلية للشخص. ومبدأ التنافس يؤدي إلى تحقيق المساواة، وهذا من المفترض أنه يتحقق في التعليم الياباني، ويظهر فيه بوضوح على الأقل فـي المدارس والجامعات اليابانية الحكومية مقارنة بالمدارس الأهلية. وعلى أية حال، ثقافة الامتحانات علـى أساس مبدأي المساواة والتنافس راسخة في المجتمع الياباني، وساهمت في تقدم منظومته التعليمية، ومن ثم تعظيم ثقافة التنمية والإنتاج، والعمل الإيجابي، والحراك الاجتماعي على أساس القدرات والكفاءات المتميزة. وبالرغم من وجود سلبيات لهذه الثقافة لكن غيابها يعد ظلمًا للدولة نفسها بحرمانها من كفاءات تتقي بها، بل تهديدًا حتى للولاء والانتماء للوطن.
أ.د. شهاب فارس - كلية اللغات والترجمة جامعة الملك سعود