في محيطنا الإقليمي الصغير تعلّمنا أن للسّنة أربعة فصول مناخية ثم حفظنا ذلك من التجربة أنهما اثنان حين لا يمر علينا سوى الشتاء والصيف وعرفنا أن هناك ما يُسمّى الربيع بأجوائه الجميلة والخريف بتساقط أوراقه ولكن لماماً فقط .
وما أجملَ الشتاء! إذا أتى حركتْ رياحُه ستائري !كما يقول نزار وتحلق فوقنا غيمة غرام تعزف أنشودة المطر، في ساعات تمر عجولة تبتغي مناجاة القمر، في لياليه الباردة عندها فقط يحلو السمر! الصغار لا يحبّون الشتاء على قِصَره حبهم للصيف لأسباب فسيولوجية بحتة ومنها تقييد الحركة الدائبة إلا أنهم يحنّون له أحياناً حين تبلغ حرارة الجو في الصيف القائظ مداها فيكون البرد فرصة لتجميع ما بعثرته ريح السموم من شوق ولهفة للقاءات جميلة تُسطّر في ذاكرة الطفل ينسجها بخيال براءة الصغر مع زخات المطر وصوت الرعد الذي يدويّ في أذنه كصدى سنوات العمر! تزدحم الأمنيات والبرامج الساذجة التي يريد أن يقوم بها الصغير فلا يميّز بين الأمانيّ التي تصادف عقله إلا ما رأته عيناه والذي جلس القرفصاء يستمع لحكاية الأم أو الجدّة وقد شاهد من هو أكبر منه تقلدها فلا يجد حرجاً من أن يحلم بها ليسرح طويلاً بأفكار طارت بعيداً وأذنٌ تلتقط بعض الكلمات يفلترها أحياناً فمنها ما يَعْلَق في الذاكرة وأخرى تعبر دون أن يفهمها وعينان تدوران في فضاء الله الواسع وقد أخذ منه النعاس كل مأخذ والتثاؤب هو العنوان الأبرز لخطوات تسبق النوم الطويل! قصص الخوف وحكايات الرعب عند الأمهات قديمة جداً وقد صنعت كُتّاباً بعد أن صاغت خيالات استحالت إلى صور اجتمعت في عقلية الصغير ثم تدرجت حتى أصبحت آفاقاً واسعة! يذكر تشارلز ديكنز الروائي الإنجليزي كيف كانت جدته لأبيه تروي له قصص الرعب قبل نومه؟ وكيف تأثر بها مستقبلاً؟ وتختلف الأمهات في التعليم ودرجة الثقافة التي حضيت بها وإن لم يكن نظامياً فالحياة بخبراتها قد تكفي! فهي إذاً عملية تربوية عفويّة تختلط بالفنتازيا الخيالية ومقسّمة بين النهار والليل (فأم السعف والليف) والتي كنّا نعتقد بأنها الغول التي لم نرها وهي مجرد نخلة يتطاير سعفها مع الريح لا تكون إلا وقت الظهيرة فلا تأتي في الليل والتي تكون فيها (أم المحامل) - ولا أدري من أين جاء الاسم - قد دشّنت بداية فلم الرعب الخيالي والتي يصفونها بأنها سيدة الكلاب أعزكم الله تقودهم نحو الفرائس في زفّة أشبه بجوقة الطقاقات في عرس البساطة! وفي منتصف الليل الحالك حين تخطر في بالك كل هذا لا يمكن أن تستلقي وحدك دون مرافق ومن حولك ظلمة إذا أخرجت يدك لم تكد تراها مع صوت الهواء الطلق يختال من مناسم النافذة وفتحات الباب الزائدة فتسمع صفيرهما ليُخيّل إليك أن هناك من قدِلأجلك فإن القلق المصاحب للحكاية حتى وإن تثاءبت، بل ستتثاءب وعيون ترقب أشبه بالناعسة إلى الصباح يجعلك تتلفت يمنة ويسرة كلما سمعت حركة حتى ولو كانت بسيطة تُفزعك من غطيط نومك المؤقت لأن الحكاية قد ضربت بأطنابها على قلبك وعقلك وقد اندسست تحت لحاف تتغيّر سماكته مع اختلاف الفصول! لحظات الذكرى تستعيدها مع هدوء الشتاء وصمت البرد القارص حين تقل المارّة في السكك فلا تسمع إلا همساً ولا ترى إلا خيال عباءة يمر كطيف لا يتكرر إلا في زمن الشتاء الجميل !
- زياد بن حمد السبيت