ألف الرافعي كتابه (على السفود)، الذي انتقد فيه بعض الأدباء في عصره، والسفود هو الحديدة التي يشوى بها، وهذا يعني أنه كان يشوي هؤلاء الأدباء بأسلوبه القوي العنيف في نقدهم، وكان منهم العقاد.
ويروى أن العقاد كان يكتب في مجلة (البيان) وكان الرافعي صاحب الرأي في النشر والتعديل والحذف في موضوعات المجلة، ويبدو أن ما يكتبه العقاد تعرض لمقص الرافعي، ومن هنا -ومن أسباب أخرى- كان هذا الصراع بين الاثنين، فقد نشبت معركة أدبية بين الطرفين، حفظها التاريخ الأدبي.
يأتي العقاد في معركة أخرى مع جيل تال له، حين كان عضواً في لجنة الشعر في المجلس الأعلى للثقافة في مصر، فحين اطلع على قصائد التفعيلة، رفضها وأحالها إلى لجنة النثر، وكان من ضمن الشعراء الذين رفض نصوصهم أحمد عبدالمعطي حجازي.
وتكرر هذا الموقف مرة أخرى في مهرجان الشعر العربي في دمشق، حين رفض العقاد أن يلقي الشعراء المجددون آنذاك شعرهم النفعيلي، وكان منهم أحمد عبدالمعطي حجازي.
ومن هنا نظم حجازي قصيدة في هجاء العقاد:
من أي بحر عصيّ الريح تطلبه
إن كنت تبكي عليه نحن نكتبه
يا من يحدث في كل الأمور ولا
يكاد يحسن أمراً أو يقربه
أقول فيك هجائي وهو أوله
وأنت آخر مهجو وأنسبه
تعيش في عصرنا ضيفاً وتشتمنا
أنا بإيقاعنا نشدو ونطربه
مستفعلن فاعلن مستفعلن فعلن
مستفعلن فاعلن مستفعلن فعلن
ولنلحظ أن (حجازي) تعمد أن يكتبها موزونة مقفاة على النمط التقليدي، بل ويكرر تفعيلات بحر البسيط في القصيدة، ليثبت للعقاد أنه وجيله المجدد قادرون على الكتابة الشعرية التقليدية وليسوا عاجزين عنها. وقد غضب العقاد غضباً شديداً حين قرأ هذه القصيدة، وقال: بل هم الذي يعيشون ضيوفاً على عصر العقاد، وندم حجازي على كتابتها واعتذر له، ولكن بعد أن فات الأوان.
وها إننا نرى حجازي يقف موقفاً مشابها للعقاد، مع جيل قصيدة النثر، وإن كان أخف حدة: «سنفترض أن قصيدة النثر قد حققت لنا هذه اللغة التي نريدها، وبقيت خالية من الوزن.. هل تستحق بهذه اللغة وحدها أن تكون شعراً؟
وجوابي عن هذا السؤال أن القصيدة التي تعتمد على المجاز وحده قصيدة ناقصة.. لنجرب إذن قصيدة النثر ولو لم نعترف بأنها شعر كامل ويكفي أن اسمها يعلن صراحة عن نقصها فلن ينخدع أحد ويظنها قصيدة موزونة.
إننا -ونحن نستقرئ هذه المواقف- يقر في أذهاننا أن الصراع الأدبي والنقدي بين الأجيال الأدبية، أو بين المدارس والتيارات الأدبية وارد بل هو حتمي وطبيعي.
فكل جيل وكل مدرسة تظن أنها الصواب الذي لا خطأ فيه، وأن من يسبقها أو يتلوها أقل شاناً وفهماً وفقهاً في الأدب وشؤونه.. كما أن الموقف المتعصب الذي يتخذه الجيل الأكبر سناً تجاه نتاج الجيل الشاب، يتكرر، حين تتبدل الأدوار، فيغدو الأديب الشاب في موقف الجيل الأبوي.. وهكذا في دورة متكررة متشابهة.
كما أن الجيل الشاب عادة يظن أنه الأحق بهذا العصر الذي يعيشه، ومن ثم فإنه صاحب الرأي الصحيح والذوق الصحيح والفكر الصحيح في الأدب. وليس في الأفق الاستقرائي لهذه المواقف نصائح أو مواعظ للجيل الشاب من الأدباء، فنحن في موقف إبداعي صرف، غير خاضع لقاعدة أو موعظة.
هي فقط دعوة للتأمل في هذه الصراعات والمعارك الأدبية التي أضفت على الأدب العربي رغم عنفها وإيلامها أطرافها آنذاك رونقاً وحيوية وثراءً، فصرنا نقرؤها بعين المستمتع المستفيد المتأمل، طالما كنا بعيدين عن شخوصها وأحداثها ومواقفها.
وسيروي التاريخ الأدبي فيما بعد معارك أدبية اشتعلت في عصرنا الحاضر في مواقع التواصل الاجتماعي، بين أجيال وتيارات ومدارس أدبية، سيُفطن لها بعد أمد من الزمن، وسوف تنعش الذاكرة الأدبية من جديد.
استفادت هذه المقالة من المصادر الآتية:
مصطفى صادق الرافعي – مصطفى الجوزو
أحفاد شوقي – أحمد عبدالمعطي حجازي
ديوان أحمد عبدالمعطي حجازي
مقالة: الرافعي والعقاد، أعنف المعارك الأدبية في القرن العشرين - محمد القوصي
لقاء مع أحمد عبدالمعطي حجازي في موقع مصرس.
د. دوش بنت فلاح الدوسري - أستاذ الأدب والنقد المشارك جامعة الأميرة نورة بنت عبدالرحمن