د. عبدالحق عزوزي
هناك معادلتان أساسيتان في مستقبل المنطقة العربية يجب الاستثمار فيهما وتجذير قواعدهما وهما النمو الاقتصادي والمواطنة الحقيقية التي تجمع ولا تفرق، توحد ولا تشتت..
فعلى العالم العربي أن يمأسس لنظم اقتصادية وتنموية متماسكة وأن يدمج شعوبه في عملية التنمية وفي سيرورة سياسية واجتماعية واقتصادية مندمجة تقوم بتحسين شروط الحياة بشكل دائم ومستمر وتقوية مختلف المجالات المجتمعية بما فيها الاقتصادية والبيئية... فهي استثمار لكل الموارد من أجل الإنسان.
وإذا كنا نتحدث هنا عن النمو الاقتصادي والتنمية المستدامة فحري بنا أن نتحدث أيضا عن النمو التشاركي والتنمية التشاركية والمبنيتان على المقاربة التشاركية؛ فشركة الطيران الفرنسية الإيرباص والتي مقرها بتولوز الفرنسية لا تصنع الطائرات لوحدها وإنما صناعتها هي نتيجة تعاون مع عدة دول أوربية مشتركة؛ فلماذا نحن العرب لا نخلق شركات عربية تساهم في الالتحاق بالركب الصناعي العالمي ولنا من الإمكانات البشرية ما يخولنا لذلك؛ والمبدأ المركزي في النمو والتنمية التشاركية هو تقاسم المعرفة وسلطة اتخاذ القرار وتقاسم الإمكانات المالية، وكل هاته المعايير موجودة في عالمنا العربي، لذا يرى العديد من المحللين أن السياسة الاقتصادية للرئيس الأمريكي الحالي سيكون مردها الفشل إذا لم تتبن الرؤية التشاركية...
إن وطننا العربي له كل الإمكانيات المطلوبة ويكفي زيارة شركة الإيرباص أو شركة بوينغ أو شركة رونو وفولفو لصناعة السيارات حيث ستجد العرب يشتغلون في كل جزئيات التصنيع والتخطيط والتسيير وإذا ساءلتهم فستجد عندهم رغبة أكيدة لاستثمار معارفهم خدمة لبلدانهم ولوطنهم العربي؛ فأنا أدعو من خلال هاته الكلمات إلى سياسة عربية موحدة تمكن من انبثاق ونمو وإدخال كل الطاقات البشرية العربية في مجال التنمية التشاركية ونكون بذلك قد حققنا وسائل للتغيير نحو الأنماط المجتمعية التي تسمح لها، ليس فقط بتحقيق القيم الإنسانية المثلى، بل وأيضاً زيادة قدرتها على التحكم والسيطرة على نمو المجتمع. فالتنمية عملية شمولية تتكامل فيها العوامل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، وهي بالتالي عملية مخططة ومحكمة تحدث تغييراً جذريّاً في بناء اقتصادي قوي؛ كما تكون السياسة التنموية تعبيراً عن آراء المواطنين واستجابة لحاجياتهم؛ وتنفذ تلك التنمية موازاة مع تشريعات ضامنة وجريئة وسلطة قضائية مستقلة عن الجهازين التنفيذي والتشريعي، ومؤسسات قوية، وتفعيل مبدأ المساءلة والشفافية.
أما المعادلة الثانية فهي المواطنة الحقة؛ وهي التي تجمع الجميع على صف واحد وهي الوحدة المرجوة في بناء البلدان والأوطان؛ فالحديث بلغة طائفية في مجتمعات مركبة من أكبر أبواب الفتنة، والجاهرون بها هم من دعاة أبواب الجحيم لأن ذلك يشعل البغضاء بين فئات المجتمع الواحد، ويصبح الفكر فكرا عدميا نرجيسيا يمحق الاآخر وينفيه ويضع الذات الإنسانية أي الأنا محل تقديس وتنزيه وهو عين الانشقاق والفوضى والفتن ما ظهر منها وما بطن.
إن إقرار مبدأ المواطنة هو مصدر الحقوق ومناط الواجبات لكل المواطنين من دون إقصاء لأية أقلية أو حرمانها من امتلاك أدوات ومتطلبات ممارسة حقوق المواطنة وأداء واجباتها، وإقامة دولة المواطنة يعني شعور الفرد بأن حقوقه في المنافع والمكاسب هي متساوية مع الآخرين في السلطة وأن ذلك حق لا منّة أو عطاء، ويجب أن يسائل الدولة إذا ما عجزت عن تحقيقها أو تهاونت في ذلك.
فمبدأ المواطنة هو المدخل الصحيح لبناء الدول، الذي يضخ المناعة في كل المجتمعات ويحصنها من فيروسات صراع الطوائف المختلفة، فجميع الأفراد يصبحون مواطنين لهم نفس الحقوق وعليهم جميع الواجبات، لتترسخ من خلال ذلك الهوية الوطنية الأكبر، التي تلم وتدمج كل فئات وجماعات المجتمع المختلفة في قوالب جامعة تحفظ للإنسان إنسانيته وكرامته وحقوقه.
وبالإمكان هنا أن نستعرض تاريخ لبنان والسودان والعراق الحديث لنفهم جليا ما يمكن أن يقع لمجتمعات لم يستحكم فيها مفهوم المواطنة الحقة؛ فالنظام الطائفي نظام يورث مشاعر قومية وثقافية سياسية طائفية تأتي على الأخضر واليابس والقشرة الحامية للدولة الأم، وتجعل من الطوائف أجساما سياسية طائفية بالدرجة الأولى وليس أجساما اجتماعية، وتجعل دعاتها يسعون إلى الزعامة داخل الدولة لتأمين الحد الأدنى من الخدمات والوظائف لأصحاب طائفتهم.
فهذا المنطق الطائفي يرسخ أقدام الزعامات المزعومة في الوحل الطائفي؛ وبكفي في ختام هاته المعادلة استحضار الحرب الأهلية الداخلية في لبنان 1975- 1990 التي أحدثت شرخا في جدار الدولة اللبنانية وانفصاما في جوانب المجتمع اللبناني؛ إذ مازال يعاني من ويلاته إلى اليوم.