تركي بن إبراهيم الماضي
بشَّرت العولمة، ضمن ما بشَّرت به، فتح الأسواق، سهولة التنقل، توفر الخدمات... إلخ. كل هذه الأشياء، لم تكن مجاناً، كان لها تكاليف باهظة الثمن، دفعت ولا تزال تدفعها الدول النامية، وخاصة الدول التي لها موارد طبيعية. الشركات العابرة للدول أو القوميات، كانت الوحيدة، والرابحة في هذه الصيغة الجديدة: العالم بصورة واحدة، وبلون واحد. بحيث تذوب الهويات داخل هوية أعظم، الإنسان الجديد، الذي تظهره الشركات بنفس الهيئة، في كل مكان تصل إليه منتجاتها.
الدول النامية كانت الخاسر الأكبر في البداية، تعرضت أولاً لتهديد ثقافتها، ثم في استغلال ثرواتها، وبعدها لم تكسب شيئاً. أو الحقيقة، أن كل ما تكسبه، يبقيها فقط لتعيش، حسب أدنى الشروط الإنسانية للعيش.
الدول الصناعية، وصلت لها تداعيات هذه العولمة، التي تغيّر في كل شيء من حولنا، أكلنا، مشربنا، ملبسنا، سلوكنا تجاه الأشياء، حتى في أذواقنا، أعادت تكوين ذائقتنا من جديد، حسب المنتجات التي تريد تسويقها. الدول الصناعية، بدأت تشعر بما كانت تشعر به الدول النامية. استيقظت بريطانيا من حلم الاتحاد الأوروبي، وواجهت واقعاً مغايراً. كان مواطنها أهم من أي شيء آخر. تدفق العمالة الأجنبية كان مهدداً، لعمالتها الوطنية. اختارت ما اختاره الشعب في الاستفتاء. الخروج من الحلم الكبير، كان أقل ضرراً، من فقدان الوظائف والهوية معاً. الشعب حافظ على ما يود الاحتفاظ به.
في الولايات المتحدة أعظم اقتصاد في العالم، ومع ذلك، يقرر رئيسه المنتخب حديثاً مواجهة الشركات الكبرى، ودفعها لبناء المصانع داخل الولايات المتحدة، تحقيقاً لوعوده، في أثناء حملته الانتخابية، بتوليد المزيد من الوظائف، وإبعاد العمالة غير النظامية من البلاد.
لن تكون هذه الإجراءات سوى البداية لما سيأتي. كل دولة ستحاول أن تحافظ على هويتها، وعلى حصر الوظائف في مواطنيها، من مدّ العمالة الأجنبية، القادم من الدول النامية.
كل ما بشَّرت به العولمة، ضمن ما بشَّرت به، تكوين هوية عالمية جديدة، تناسب جميع الديانات والثقافات، أو بمعنى أصح، تحييد جميع الديانات والثقافات، لتكون متفاهمة، وغير مضادة للهوية العالمية الجديدة. الشركات عابرة الدول أو القوميات، لم تعد شركات، بل كيانات أضخم من الدول، ليست لها حدود سيادة، فكل ما على الأرض وتحتها، هو داخل في سيادتها.
من بشّر بأن العالم سوف يكون قرية صغيرة، كان محقاً. تلاشت المسافات بين الدول، لكن لم تتلاش الخلافات العميقة بين هويات الناس واختلاف مصالح الدول. الآن فقط، العالم القديم قد يبعث من جديد. عالم ما قبل الحربين العالميتين.