أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: ليست الفلسفَةُ سوى نظريةِ المعرفَةِ والعلمِ على أنْ يُضَمَّ إليها المنطقُ؛ ليؤخذَ من ثناياه ما هو من بناءِ المَعرفة، وما هو نموذج تطبيقي لعصمةِ الذهنِ مِن مقدمات سوفسطائية مُعَينَّة؛ وذلك هو البرهان الأرسطي، ويُسْتَبْعَدُ منه ما ليس فلسفةً كالمَداخلِ في علومِ اللغة؛ وإنما يُستفادُ منها سياقاً لا تأصيلاً فصولٌ مستقلةٌ؛ فمجال ذلك اللغةُ وعلومها.. ونظريةُ المعرفة هي التي تُعنَى بمَصادر المَعرفة، وتحليلِ كل معرفة إلى عناصرها، وتذكُّرِ نوع المَعارف تصوراً وحكماً كالإمكان والوجوب والْمُحال، وكالعلم بالْمَوجود وصفاً، والعلم به كَمّْاً وكيفاً، وتذكُّرِ درجاتٍ تصحيحِ الْمَعرفة ما بين اليقين إلى الوهم والبطلان، وما يتبع ذلك من سلوك كالْقَطْعِ علماً، أو الوجوب عملاً، أو التوقُّف.. إلى آخر ما هنالك من فروعِ نظريةِ الْمَعرفة ومصطلحاتها؛ وأسلوبُ تحصيلِ ذلك: النظرُ العقليُّ اليقِظُ الصارمُ؛ وأداةُ توصيله المِثالُ والتقسيمُ، وزيادةْ الإِطْنابِ بالشرح والبسط عند الضرورة.. ومادتُه عمومُ ما هو موضوعٌ لمَعرفتِنا من الْمُشاهَد، والْمُغيَّب؛ وبهذا تنتهي الفلسفة العامة وتقف؛ فإذا جرى تأصيلُ حقلٍ مَعْرَفيٍّ بأسلوبٍ فلسفي: فذلك هو فلسفةُ ذلك العلمِ؛ وهو التطبيقُ لنظرية الْمَعرفةِ (الفلسفةُ العامةُ)؛ فلا بُدَّ من العلمِ أوَّلاً بأهمية نظرية المعرفة، وببيانِ اشتقاقِ البرهان العلمي منها؛ فأوَّلُ خطوةٍ للفلسفة النزيهةِ البحثُ الجادُّ في الكشف عن مُسَلَّمَةٍ يؤمنُ بها العقلُ الإنسانيُّ الْمُشتركُ بضرورةٍ فكرية؛ وأما السلوكُ الحرُّ غيرُ الْمُلتزم بمَسؤولية العقل: فهو مَسارٌ غيرُ أخلاقيٍّ؛ وهو الذي مزَّق الفلسفة إلى مذاهب متباينة.. والاتِّفاقُ على مُسَلَّمة بِحُرَّية سلوكية محال، بل يكون ذلك بالحرية السلوكية غيرِ الْمَسؤولةِ فكرياً؛ وهو مجالٌ حتميٌّ للسفسطة؛ فيكونُ ذو الحريَّةِ السُّلُوكِيَّةِ سوفسطائياً أو عقلياً بالوجه الأعم، أو عقلياً بواسطة الشرع، أو عقلياً بواسطة الحِسِّ، أو عبثياً.. إلخ.. والإقرارُ بحرية السلوك لا معنى فيه لحقٍّ أو باطل، وخير أو شر، وجمالٍ أو قبح، وخطإٍ أو صواب.. إنَّ كلمةَ (اخترت هذا بحريتي) مُنهيةٌ الخلافَ، طاويةٌ كلَّ منهجٍ علمي أو فكري؛ إذن الْمُسَلَّمةُ الفكريةُ مفروضة على كل فرد يملك حرية الاختيار، محتومةٌ عليه كحتمية أجلِ وجودِه وموته.. لا يستطيع اتخلَّصَ منها إلا إذا أراد بحريتِه عنادَها.. وإنَّك لَتَشْعُرُ بهذه الْمُسلَّمة إذا أصغيتَ إلى كلِّ الْمَذاهب الْمُختلفة اختلافَ تباينٍ، أوْ اختلافَ تضادٍّ، أو اختلافَ عمومٍ وخصوص.. إلخ ؛ وإنَّك لتسمعُ أصداءَ عنصرٍ مشترك بين هذه الْمَذاهب مِن حيث لو تخلَّى أيُّ مذهب عن هذا العنصر لأصبح تخلِّيه إلغاءً لمُسلَّمةٍ حتمية يمْلك إلغاءها بحريةٍ سلوكية، وليست هذه الْمُسلمةُ غيرَ مبادئ العقل الفطرية الضرورية؛ فكل عقل لا يستقرُّ في تصوُّرِه غيرُ ما توجيه هذه الضروراتُ: لا يقوىَ على تصور غيرِها، ولكنه يقدر على إلغائها بنطق لسانه، ولا يقدر أنْ يَقَرَّ في تجرِبته وحسِّه غيرُها.. يستطيع اللسانُ أنْ ينطق ويقول: النقيضان يجتمعان، ولكنه لا يستطيع أن يتصوَّر ذلك بعقله، ولا يستطيع أنْ يُظهِر بالحس والتجربة نقيضين مجتمعين، ولا يستطيع أنْ يُلْزمَ عقلَ غيرِه بغير هذا الْمُقتضَى الفكري؛ إذن العقل بمَبادئه الفطرية هو الْمُسلَّمة الحتميةُ في كلِّ فرع من فروع الْمَعرفة البشرية بدون استثناء؛ وكلُّ ما يُسمَّى برهاناً طِبيّْاً أو رياضياً أو تاريخياً أو شرعياً أو خُلقياً أو جمالياً أو قانونياً.. إلخ: فإنما هو برهانٌ مشتقٌ من أحد مبادئ العقل الفطرية؛ ومهما تعدَّدت صُوَرُ البراهينِ فبلغت العشرات أو المِئات أو الألوف أو الْمَلايين: فإنها قضايا تُقَصُّ(؛ بالبناء للمجهول) بالأثر من حقلٍ إلى حقل حتى تنتهي إلى مبدإٍ عقليٍّ فطري لا برهانَ عليه إلا حتميةُ وجودِه في تصوُّرِ كلِّ عقلٍ.. ومن قال: (لا مذهبَ لي إلا مُعطياتُ التجرِبة) باخسٌ العقلَ، مُلْغٍ كثيراً من معارِفه، ويلزمه التناقض؛ لأنَّه يستخدم سلطان العقل إذا شاء، ويُذِلُّه إذا شاء في حين أنَّ ما أخذه مِن العقل، وما ردَّه منه: سِيَّانِ ليس بعضُهما أولى من بعض إلا باصطناع إرادةٍ حُرَّة؛ أيْ باصطناعِ عقيدةٍ يختارها بِتَشَهِّيه وتحكُّمه، ثم يلتزم مدلَولِّها، ويُؤمِّم بها إيجابياتٍ لَمَ يصنعْها؛ ومن ثَمَّ يلزم الفلسفةَ النزيهةَ استردادُ أيِّ مدلولٍ لضرورات عقلٍ جحدها الجاحدون مِن حيث شاؤوا؛ فلا يُقْبل مِن التجريبي أنْ يقول بملءِ فيه: (أنا غير معترفٍ بسلطان العقل) وهو يُمارسه عملياً في أشواط تجرِبته؛ وإنما علينا أنْ نستردَّ منه الْمَبادئَ العقليةَ التي استخدمها مِن حيث شاء..والمبدأُ الخلقي يعني تحريرَ العقل من نِير الادعاء والجحدان، وقَسْرِ النفوسِ والعقولعلى الحقِّ على الذي هو ضرورةٌ فيها.. وإلى لقاءٍ في السبتِ القادِم إنْ شاء الله تعالى, والله المُستعانُ.
كتبه لكم:
أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري (محمد بن عمر بن عبدالرحمن العقيل)
-عفا الله عَنِّي، وعنهم، وعن جميع إخواني المسلمين-