إن من الأعمال العظيمة والمطالب فيها جميع الأفراد على حدٍّ سواء هي العمل على الاهتمام بالنماذج التي تساعدهم على اكتساب مزيد من الوعي, ولا يختلف الأفراد فيما بينهم إلا باختلافهم في سلم الوعي فمنهم من هو في أعلاه فتراه طيب النفس ناضج الفكر مليء بالسكينة والحكمة ومنهم من هو في أدناه فيعيش مرتبطا بخيوط البنْدولات على حد تعبير المفكر الروسي فاديم زيلاند؛ فخيط في مشاعر تأنيب الضمير وآخر في القلق وثالث في الخوف ورابع في الغضب وخامس في الموضة وسادس في الديون وسابعهم في المرض؛ والخيوط تتكاثر والبنْدولات ليس لها حد وكأنما هي طبق عن طبق وسأعمل على استعراض منهجين/مدرستين أصبح لهما انتشار وأدبيات وكتب مترجمة إلى العديد من اللغات ولا يغيب عن الذهن بأن الأصل في كل العلوم وفي شتى المجالات أن تساهم في إكساب الوعي؛ وليس ذلك وحسب بل وزيادته وتنميته بشكل وبآخر. والنجاح والفشل في كل تلك العلوم والمهارات والتقنيات والفنون مرتبط بمدى التفاعل التطبيقي إذ لا فائدة مثلا أن تحفظ الأشعار الأدبية وأنت منفصل عن الأدب كما لا يليق أن تحفظ آيات من الكتاب المقدس وأنت لا تعمل على التفاعل معها والتطبيق لها. ومن تلك النماذج؛ نموذج/ مدرسة الأيزوتيريك وهو ما سأتحدث عنه في هذا المقال ثم أتبعه بمقال عن نموذج الترانسيرفينغ وأما نموذج الأيزوتيريك فهو كما يعرفه مؤسسه الدكتور جوزيف مجدلاني بأنه تقنية اعرف نفسك من خلال تقوية الشخصية الفردية بإعمال الفكر الذي هو الأساس في أي عمل وتعرفه الأستاذة هيفاء العرب بأنه هو علم الوعي وطريقة حياة في فهم الحياة وإدراك مظاهرها وبواطنها من خلال تقنية حياتية مبسطة. وأما الدكتورة رانيا فرح فتراه بأنه سباحة في العمق وأنه ليس علم معلومات فقط إذ الوعي كما تراه تفاعل داخلي وتطبيق عملي وممارسة وليس دراسة نظرية خارجية. ومن أدبياته أيضا بأن مهمة الإنسان الأولى والأخيرة هي العمل على اكتشاف ذاته بحكمة الوعي المتنامي بالمعرفة والاستيعاب من خلال التطبيق العملي. وهو يؤكد أيضا بأهمية النظر إلى كل أحداث الحياة ومواقفها على أنها تحمل معاني ومن المهم إدراك معانيها ولذلك يقول المهندس زياد دكاش بأن المرء لن يستطيع أن يفهم أسرار المعرفة إن لم يفهم أبعاد الأحداث اليومية التي يعيشها فهذه الأخيرة هي الأهم باعتبار أنها ليست وليدة الصدفة. ونفي الصدفة يجعل الإيزوتيريك يتوافق مع الفيزياء الكمومية التي نفوجود شيء اسمه صدفة وهو أيضا يتوافق مع الآية القرآنية الكريمة التي أيضا تنفي الصدف وتوكد على أن كل شيء إنما كان ويكون وسيكون بأقدار معلومة عند الحق سبحانه قال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}. إني أعتقد أن من أعمق ما يؤكد عليه هذا المنهج هو التطبيق العملي ولا قيمة لأي معلومات خالية من التطبيق إذ هو -التطبيق- الكفيل لك بأن تتوسع مداركك وتفهم أكثر سير حياتك وتقوم بالربط بين الأجزاء المتناثرة في دربك. إنني عندما أتناول طرح هذا المنهج لا يعني الدعاية له فهو في غنى عن ذلك وانتشاره وترجمات كتبه مؤشر على قبوله بين الناس وأيضا لا يعني تمجيد له فغاية ما أنشده أن أرصد بعض المناهج التي لها أدبيات وتاريخ ونحن في تثاقف معرفي والنقد باب يعمل على بنية التطور والتطوير ما دام يدور في الإطار المعرفي أي بعيد عن الإسقاط والسباب والشتائم والتغامز والتنابز, والحق والحقيقة نسبية الوجود؛ والصادق يُهدى إلى سواء السبيل. ولذلك نجد مؤسس علم اجتماع المعرفة كارل مانهايم في رؤيته عن الحقيقة يرى بأنها تشبه الهرم؛ إذ الهرم له جوانب متعددة وكل فرد من الناس/ فريق ينظر إلى جانب معين ويهمل بقية الجوانب ولذلك كل فرد/ فريق يأخذ صورة واحدة تختلف عما أخذه الآخرون ولو قُدّر لنا الارتفاع إلى أعلى الهرم بما يسمح لنا برؤية كاملة لكل جوانبه لتبين لنا أن كل رأي لذلك الفرد/الفريق أو الآخر قد يكون صوابا وخطأ في آن واحد. إذا كما قلت سابقا فإن هذا النموذج/ المدرسة الأيزوتيريكية تعتمد بشكل مباشر على التطبيق الحياتي والممارسة العملية وترفض الأفكار الطوبائية التي لا تمت إلى الواقع بصلة وفي هذا السياق يقول عالم الاجتماع العراقي الدكتور علي الوردي رحمه الله: والغريب في بعض المفكرين أنهم حين يتحدثون في خلوة مع من يثقون به قد يبدون من الخبرة الاجتماعية الشيء الكثير وهم لا يترددون في حياتهم اليومية أن يسلكوا كما تقتضيه تلك الخبرة. إنما هم لا يكادون يبدأون بتحبير الكتب أو يبوأون منصة الخطابة حتى ينقلبوا إلى مفكرين طوبائيين يتمشدقون بالأفكار العالية التي لا صلة لها بواقع الحياة الاجتماعية. إنني أتصور بأن الأيزوتيريك استطاع وبامتياز أن يتجاوز هذه الأفكار الطوبائية والمعلقة في الفراغ وأكدَّ في أدبياته وبشكل ملفت على أنك أنت أيها الإنسان المحور والذي يساعدك على التطور هو التطبيق العملي ومراجعة أحداث حياتك والربطبين أجزاء تلك الصورة الكبيرة والأحداث المتناثرة وأيضا مما يجدر بك الانتباه إليه تغييب عامل الصدفة من معادلة الحياة. إننا بحاجة إلى بناء أنساق معرفية واعية تأخذ بالناس إلى حيث الاعتدال والهدوء والسلام والانسجام والمحبة والبهجة كممارسة عملية/ عملية وليست كأفكار طوبائية وشعارات فارغة يستحيل تطبيقها على خريطة التجربة الحياتية والتفاعل اليومي في أحداث الحياة. ولأهمية التطبيق فقد تكرر كثيرا في كتاب الله العزيز الحميد قوله (الذين آمنوا وعملوا الصالحات) الأمر الذي يؤكد على أهمية التطبيق العملي للإيمان وفي المقال القادم سأتناول بإذن الله نموذجا/ مدرسة أخرى. ودمتم في تطور ووعي واستنارة وهداية ورشاد.