ياسر صالح البهيجان
الصراعات الفكريّة داخل الأوساط الأكاديميّة ليست فعلاً مذمومًا إن ظلت محصورة في الإنتاجات العلميّة والمناظرات القائمة على مبادئ احترام الآخر المختلف فكرًا وثقافة ومعرفة، إنما الإشكال إن تحوّلت إلى تحزّبات وتكتلات تروم تغيير هويّة الدراسة الأكاديميّة برمتها لتنسجم مع اتجاهات فكريّة محددة، وتتضمن في الآن ذاته إقصاءً لأي مخالف، وقد يصل مدى الاختلاف حدّ الاستغناء على كفاءات تدريسيّة بحجة أنها تحمل فكرًا معارضًا لا يخدم مصلحة الكتلة المهيمنة.
في معظم الكليّات الشرعيّة، هناك الصراع محتدم داخلها بين أتباع مذهب التوفيق بين النقل والعقل، وأنصار التسليم بالنقل بمعزل عن موافقته للعقل، وبين من يؤيدون الاجتهاد في أي قضية، وآخرون يعتقدون بأن الاجتهاد باب شرّ لا يُفتح إلا عند الضرورة، وتلك التكتلات تجد طريقها إلى قاعات الدراسة، ويسعى كل فرد إلى قولبة تلاميذه وفق رؤيته وموقفه، ويشنّع على الفرقة الأخرى ويصفهم بأوصاف لا تخلو من التبديع والانحراف والضلال.
وكذلك في كليّات اللغة العربية، الصراع على أشدّه بين أتباع مدرسة سيبويه المؤمنة بسيادة النحو التقليدي، وبين المؤيدين للدرس اللساني الحديث الذي وضعه فردناند دي سوسير وما تمخض عنها من اتجاهات لغويّة كالأسلوبيّة والتداولية وعلم الخطاب. وفي النقد الأمر لا يختلف كثيرًا، فهناك صراع أيضًا بين أنصار البلاغة والنقد كما هما عند عبدالقاهر الجرجاني والسكاكي وأضرابهما، وبين من يعتقدون بضرورة الاتجاه إلى النظريات النقدية الحديثة التي أفرزتها مرحلة الحداثة وما بعدها كالتفكيكية والنقد الثقافي وما بعد الكولونيالية.
وأجزم بأن أي حقل علميّ لا يكاد يخلو من الحالة التي عليها الكليّات الشرعية واللغويّة، ما يفرض على الأكاديميين التزام الحياد في العمليّة التعليميّة، والفصل بين المواقف الشخصيّة والفكريّة وبين نقل المعرفة بموضوعيّة، والإيمان بحق التلاميذ في اختيار اتجاههم الفكري بعيدًا عن أساليب التعبئة والقولبة التي تنشئ أجيالاً لا تؤمن بمبدأ الاختلاف، ولا تتورع عن التهجم على المخالفين ووصفهم بأقذع الأوصاف وأشنعها.
المعرفة ليست عمليّة نقل معلومات مدوّنة في الكراريس إلى عقول التلاميذ، وإنما هي قبل أي شيء أخلاق وتربية وقيم عليا، ومن مهام عضو التدريس في أي جهة أكاديمية أن يؤسس لتلك المبادئ في عقول الدارسين، وأن يجعل من ذاته قدوة علميّة عبر انفتاحه على أي أطروحة وإن كانت تعارض رؤيته ومواقفه، وأن يتبنى منهجًا حواريًا يعزز التفكير الناقد والعقلاني في المقاربة بين الرؤى المتعارضة، ويجعل من قاعة الدّرس حلقة نقاش فكريّة يسود فيها التسامح بين المختلفين دون أي ممارسات قمعيّة أو تكميم للأفواه أو تقييد لحريّة التفكير.