خرج يبحث عن سكن. ركب سيارته التي اشتراها قبل أيام بعد بيع أسهم اكتتاب في بعض الشركات المساهمة. وفي المكتب العقاري، وأمام الوافد المشغول بالحديث على هاتفه الجوال، تساءل إن كان الأمر يستحق الوقوف أم أنه يريح جسده إلى كرسي أمام مكتب الوافد ريثما ينهي مكالمته؟ في انتظاره الممل كان يستمع لنصائح الوافد لصاحبه الآخر وهو يقول له: «قول لو 85 ألف بس لو جبيتها لك بـ80 ألف ريال ليه كام؟!». وبعد ضحكة خفيفة تابع المتحدث يقول: «يا عبيط الشغل عايز كذا.. خليك مصحصح امال؟!».
همّ صاحبنا بالانصراف إنقاذًا لنفسه، وحتى لا يكون هو الآخر عبيطًا، لكن بطبيعة ابن هذا الوطن الطيب أقنع نفسه بأنه فهم الدرس الآن..
حين أقفل الوافد سماعة الهاتف على عجل بعد ثماني دقائق سأل صاحبنا إن كانت رغبته في شقه أم دور؟.. يبدو أنه قد أصبحت لدى إخوتنا العرب الوافدين قدرة في قراءة تعابير الوجه وشكل الهندام؛ ليصنفك بشكل سريع..
أجاب صاحبنا: بلى، دور أرضي أو فيلا صغيرة، يتوافر بها غرفة سائق وغرفة شغالة. ويبدو أن هاتين الغرفتين أصبحتا من ضرورات العائلة السعودية؛ فالنساء تغيرن عن الماضي؛ لم يعدن يطبخن، وإن طبخن لا ينظفن، ثم إنهن في حاجة لقضاء حوائجهن أو حتى الالتقاء برفيقاتهن، وما عاد الرجل يحتمل أكثر من أعباء هم الانتظار لساعات في الأسواق أو أماكن التجمعات لهؤلاء النسوة.
خرج صاحبنا بصحبة الوافد لمعاينة سكن للإيجار، ولكن وفي الطريق خرج سائق سيارة أجرة من شارع فرعي إلى الطريق بشكل فجائي؛ فارتطمت سيارته بسيارة صاحبنا؛ ليتم الاتصال بشركة تحقيق الحوادث المرورية التي جاءت بعد نصف ساعة؛ لتقرر أن الخطأ على صاحب السيارة الأجرة، وهو وافد، لكن من جنسية أخرى، ويجيد بعض الكلمات العربية، لكنه لا يستطيع ربطها في جملة سليمة. وفي صباح الغد نقل صاحبنا سيارته على حاملة مركبات، يقودها وافد من جنسية ثالثة، واتجه بها إلى شيخ المعارض؛ ليستقبله وافد آخر، ويعاين السيارة، ويكتب له التقرير مغلفًا وموجَّها إلى أحد مكاتب المرور. وفي اليوم الثاني استيقظ صاحبنا مبكرًا، واتجه إلى مكتب المرور يحمل الظرف المغلف، وحين فتحه العسكري وقرأ التقرير سلمه لصاحبنا، ووجهه لمراجعة مكتب التأمين. وفي مكتب التأمين أبدى الموظف - وهو وافد عربي - دهشته من المبلغ باعتباره أكبر من المتوقع، وخيَّر صاحبنا بين القبول بمبلغ أقل بعشرة آلاف أو الرفض. استغرب صاحبنا، وتساءل «وحين أرفض ما العمل»؟ أجابه الوافد بأن مكتب التأمين سيعيد تقييم الأضرار من جديد. تساءل صاحبنا «وكم سيستغرق ذلك»؟ أجاب الوافد «ليس أكثر من شهر أو شهرين فقط». هنا لم ينهَرْ صاحبنا أو يتألم؛ فهو مواطن سعودي؛ تعوَّد على مواجهة اللامنطق؛ لهذا فكّر بعمق، ووجد أن تعويضًا ولو بخسارة النصف مع توفير الوقت والجهد أفضل؛ لهذا انتقل إلى عملية المساومة؛ لعل وعسى أن يقدر على تقليص الفارق، ووجد استعدادًا لدى موظف التأمين الآخر، وهو أيضًا وافد؛ إذ عرض عليه أن يخفض العشرة إلى سبعة آلاف ريال فقط.
أدخل سيارته إلى إحدى الورش، ودفع نصف التكلفة، على أن يتم دفع المتبقي بعد انتهاء العمل، وأن يكون ذلك بعد عشرة أيام. وفي اليوم الموعود جاء صاحبنا إلى الورشة ليستلم سيارته التي - للأسف - وجدها ما زالت بحالتها كما تركها. غضب، وانتفخت وجنتاه بين الحسرة والألم وهو يحاول أن يجد تبريرًا من الوافد الذي طلب منه أن يدفع المتبقي ليكمل عمله. صاحبنا طلب التحدث إلى الكفيل صاحب الورشة السعودي، لكن هيهات له ذلك. اتصل بالشرطة فأبلغه الشرطي بأن عليه أن يتقدم بشكوى إلى المحكمة. اتصل بوزارة التجارة فرد عليه الجهاز، وسجّل المعلومات المطلوبة، ثم نظر إلى السماء.
بقي ينتظر ردًّا من وزارة التجارة دون جدوى، وعاد مرة أخرى إلى الورشة؛ لعل وعسى يجد في ظلمة اليأس قبسًا من نور. العمالة الوافدة عرفته حين وقف ينظر لعل وعسى، لكنها تجاهلته، وقد حاول أن يحدث هذا أو ذاك؛ لعله يجد من يعطف أو يقدر مواطنًا في وطنه، لكن دون جدوى. راح إلى الورشة المجاورة يبث شكواه، ويسترق عطفًا أو تفهمًا، ومرة أخرى دون جدوى. عاد إلى منزله بسيارة أجرة مع وافد؛ ليجد وافدًا آخر ينتظره عند باب منزله. سلم عليه، ورحب به، فهو موظف في مكتب العقار الذي استأجر منه السكن، وراح يشرح له كيف أنه كان ذاهبًا مع أحد الوافدين في مكتب عقاري لمعاينة سكن لولا أنه تعرض لحادث، ثم بألم زاد حماسه؛ ليسرد له قصته مع عمال هذه الورشة الذين حجزوا سيارته، وكيف أنه لا سبيل له إلا التقدم للمحكمة بشكوى. وبعد أن بدأ يكرر ما يقول أبلغه الوافد بأن صاحب الملك (زعلان)، فإما أن يدفع الإيجار أو يخرج، وأنه قد مضى الآن ثلاثة أسابيع من نهاية العقد، وهي مدة كافية، وإلا فإنه سيضطر لقطع الماء والكهرباء واستدعاء الشرطة.
في صباح اليوم التالي استأذن من رئيسه المباشر ليذهب إلى المحكمة لتقديم شكوى ضد الورشة، واستطاع أن ينال موعدًا من المحكمة للنظر في القضية بعد ثمانية أشهر. عاد إلى مقر عمله، ودفع لسائق الأجرة الوافد ثلاثين ريالاً بعد جهد ومفاصلة؛ ليسترخي على كرسيه أمام مكتبه الذي يتوسط أربعة مكاتب أخرى. كان زملاؤه في حديث عن مباراة في كرة القدم في إسبانيا، وكيف أن الحكم لم يحتسب ضربة جزاء واضحة ومكشوفة؛ لينتقل الحديث إلى المقارنة بين الحكم الوطني والأجنبي. لم يجد صاحبنا في صدره مساحة تستوعب ما يتحدث به زملاؤه؛ فراح يقلب جريدة ورقية أمامه، ثم يطوي صفحاتها واحدة بعد أخرى. وفي البيت، وعلى الغداء، بشّرته زوجته بأن عرس بنت أختها بعد غد، لكنها أبدت أسفها لأن الوقت قد لا يتسع لشراء فستان وحذاء وحقيبة وسوار خاص، وأن النساء الآن صرن يميزن بين الماركات، لكنها أيضًا عادت لتؤكد لصاحبنا أنها تدرك وتقدر الظروف التي يمرون بها؛ وهي بالتالي لن تطلب أكثر من عشرين ألف ريال فقط.
في مساء اليوم التالي أراد صاحبنا الهروب إلى الرفاق في استراحة على أحد الطرق البرية؛ فاتصل بصديق ليصطحبه؛ فليس لديه سيارة. وفي الطريق كان صاحبنا يتحدث بحرقة، ويقص ما حدث له، ورفيقه يذكره بأنه سبق أن نصحه بشراء السيارة الأخرى ذات المحرك الأقوى، وأن هذه فرصة ليسمع نصيحته ويشتريها من الغد، خاصة أن قيمتها لا تتعدى المائة والثمانين ألف ريال فقط. وفي حالة رغب في بيعها بعد الاستخدام فلن ينزل من سعرها سوى ستين ألف ريال فقط، طبعًا إن بقي محافظًا عليها ومستمرًا بصيانتها في وكالتها الاحتكارية، حتى وإن كانت أسعار خدماتهم مرتفعة. التفت إليه صاحبنا وقال متسائلاً: «يا أخي، من وين تشترون حبوب التبلد ذي؟!!».