فضل بن سعد البوعينين
أؤمن بغزارة الأمطار التي غمرت المملكة الأسبوع الماضي؛ إلا أن الاعتماد عليها لتبرير غرق بعض المدن قد لا يستقيم بوجود نماذج إيجابية تؤكد القدرة على التعامل معها متى طبقت معايير مشروعات صرف الأمطار ومناسيب الأحياء والشوارع والتغطية الشاملة لشبكات الصرف، فالجبيل الصناعية كانت الأنموذج الأبرز في التعامل مع كميات الأمطار المرتفعة؛ بعيداً عن خطط الطوارئ؛ والإجراءات المفاجئة؛ ويعود ذلك إلى نوعية البنى التحتية وآلية تنفيذها وشمولية أنظمة الصرف التي لا تعتمد على مضخات الرفع والضخ فحسب بل تعتمد أيضا على تصاميم دقيقة للأحياء والشوارع ومنسوب قادر على التعامل بسهولة مع كميات أمطار مرتفعة وتصريفها في فترة زمنية قصيرة.
قد يحتج البعض بعالمية الجبيل الصناعية؛ وحجم ميزانياتها الضخمة؛ وتدشينها على أرض بيضاء ساعدت المخططين على تنفيذ بنى تحتية شاملة وفق معايير عالمية دون معوقات؛ لذا نطرح نموذج تقليدي آخر وهو مدينة عنيزة التي تمتلك شبكة تصريف عالمية ساعدتها على تجاوز سنوات الغرق الفائتة وآخرها العام الماضي.
وعلى الرغم من وجود شبكة التصريف الكفؤة إلا أن مدينة عنيزة أنجزت أحد أكبر مشروعات تصريف السيول ودرء أخطارها وهو مشروع «الثقب الأفقي» الذي حفر على عمق 25 مترا وامتداد 7 كيلومترات وبعدد ثلاث عبارات خرسانية قادرة على نقل السيول بطريقة آمنة أسفل المدينة؛ وهي طريقة مثالية لمعالجة مشكلات السيول في المدن مكتملة البناء.
وللأمانة؛ فأزمة الغرق لم تطل بعض الأحياء في بعض المدن الغارقة؛ وربما مدن أخرى وهذا يؤكد ارتباط الغرق بنوعية المشروعات وآلية تنفيذها إضافة إلى معايير تجهيز المخططات والأراضي قبل تنفيذ البناء عليها وفق متطلبات الحماية من الأمطار والسيول المفاجئة.
غياب التخطيط السليم؛ جودة التنفيذ وكفاءته، النزاهة، التقييم والمحاسبة من أسباب تشوه المخرجات التنموية، وهدر النفقات الحكومية، واستمرار الأزمات. تعطيل قانون المحاسبة في القطاع الحكومي ساعد على استدامة الأزمات، على الرغم من تبعاتها المدمرة.
كتبت بُعيد غرق جدة ما نصه: «لا أعتقد أننا نعاني شح الاعتمادات المالية، والدليل الإنفاق الحكومي التوسعي الذي تجاوز 2.5 تريليون ريال في خمس سنوات، كما أن المملكة لا تعاني من نقص في مشروعات البنى التحتية التي يُنَفق عليها ما يقرب من 250 مليار ريال سنويا؛ إذا فنحن نعاني من أزمة العقول والإدارة التي لم تحسن التصميم، التنفيذ، إدارة مشروعات البنى التحتية والإشراف عليها وهو ما تسبب في كثير من الأزمات، وعلى رأسها أزمة غرق المدن. الاستيلاء على الأودية، والتعديات التي حولتها حجج الاستحكام إلى أملاك، وسوغت بيعها للمواطنين تسببت في كثير من الأزمات المتكررة في مناطق المملكة».
ما كتبناه قبل سنوات نُعيد كتابته اليوم، وما تجرعناه من آلام جراء تداعيات السيول من قبل، نجده ماثلا أمام أعيننا. دخلت المملكة مرحلة جديدة من التغير المناخي؛ وتزايد كميات الأمطار؛ وجريان الأودية؛ وهي حالة يغلب الظن على ديمومتها؛ ما يستوجب العمل على معالجة الأخطاء والاستعداد الدائم لها من خلال مشروعات نوعية تحمي المدن من الغرق والتداعيات الخطرة. الالتزام بمعايير تخطيط المدن والأحياء ومناسيب الشوارع والأبنية؛ استكمال شبكات الصرف؛ والاعتماد على الشركات العالمية في التخطيط، والإشراف والتنفيذ هو المخرج من أزمات الغرق المتكررة، تجربة الهيئة الملكية للجبيل وينبع مع شركة «بكتل العالمية»؛ وتجربة عنيزة مع آليات التخطيط؛ واستثمار الميزانيات المرصودة؛ وكفاءة التنفيذ وحرص شركاتها الوطنية على إنجاز المشروعات وفق جودة عالية ورؤية تكاملية بين القطاعين العام والخاص يجب أن يستفاد منها للتعامل مع أزمات الغرق الحالية؛ خاصة ما ارتبط منها بالمعايير والمواصفات وتخطيط الأحياء وتنفيذ المشروعات.
كشفت الأمطار الغزيرة عن مكامن الخلل الفني والإداري؛ ما يستوجب التدخل السريع لمعالجة الأخطاء، وإيجاد الحلول الناجعة والدائمة لها. الاعتراف بالمسؤولية والخطأ بداية التصحيح العملي؛ أما التحجج بشماعة كميات الأمطار فلن تسهم البتة في معالجة المشكلة. تخرج المنح من بطون المحن؛ وبدلا من البكاء على غرق المدن فلنعمل معا على معالجتها بشكل نهائي.
يمكن أن تسهم حالة الغرق في وضع «أطلس» المواقع المتضررة من السيول والأمطار؛ لتشكل قاعدة بيانات موثوقة لمواقع الخلل، وتجمُّع مياه الأمطار، ومواقع الأزمات الدائمة. التعامل معها وفق رؤية استراتيجية وبرامج عاجلة مصححة للأخطاء السابقة هو ما تحتاج إليه مدننا وأحياؤنا المتضررة. فأولوية المشروعات يجب أن توجه لإصلاح الخلل؛ وضمان عدم حدوثه مستقبلا. يفترض أن تكون معالجة قصور مشروعات صرف الأمطار وحماية المدن والأحياء من السيول في مقدم أولويات الحكومة.
معالجة قصور شبكات تصريف الأمطار والسيول؛ وضمان تنفيذ مشروعاتها المستقبلية وفق المعايير العالمية؛ وتفريغ الأودية من المنازل أو تنفيذ مشروعات «الثقب الأفقي» أسفل الأحياء المهددة؛ لنقل السيول؛ وضبط المخططات الخاصة وعدم السماح لملاكها ببيعها قبل تنفيذهم معايير التخطيط واستكمال شبكات التصريف؛ ومعالجة أزمة الأنفاق والطرق السريعة هو التحدي الأكبر والدواء الشافي لمشكلات غرق المدن المستعصية.