عبده الأسمري
ننتظر المطر كل عام، ونحتفل بمواسمه، ونبتهج بقدوم هذا الضيف الجميل والقادم بمواعيد الرحمة وابتهالات العطايا.. هذه الفرحة الإنسانية العارمة يواجهها نقيض آخر بفعل البشر، وسوءات أيديهم، وتبعات عقولهم، من خلال حوادث الأمطار وحالات الطوارئ وغيرها.
على الصعيد التنموي والمشهد الإنساني المرتبط بالمكان هنالك يختلف المشهد؛ فالمطر لدينا يرحم العباد والبلاد، ولكنه في الوقت ذاته يحرم الفاسدين من استمرار مسلسل الفساد وحلقاته السوداء؛ إذ تأتي المياه لتطهر الأرض من الاستغلال والسرقة والفساد بكل صوره. في مدننا تتجلى كل عام مشاهد حزينة وأحداث هي أشبه برواية فيما لو رُبطت بالميزانيات، وأقرب للخرافة إذا ما ربطنا المشاريع المذكورة بالواقع الوهمي للتنفيذ. سأجول في مقالي راصدًا مترصدًا للعديد من تلك الأحداث التي كانت حقيقة بالأمس، وواقعًا باليوم، وقد تكون مسلَّمات ومن المؤكدات بالغد.. وهذا ما أخشاه. ففي جدة سابقًا، وفي ماض مخلد، كان وسيظل عنوانًا للفساد أينما جاء المطر.. فله في العروس قصة أخرى.. في هذا المشهد ينظر الجميع إلى جدة بتخيل واحد من خلال مخططاتها العشوائية، وأوديتها التي تخترق أسوار المدنية؛ إذ تظل الحياة هانئة حتى يأتي «الاختبار الرباني» الذي يكشف الخلل مع كل مطر يأتي للمدينة المظلومة حينًا من الدهر.
في الرياض والشرقية والغربية والشمال والجنوب، وأينما اتجهت البوصلة.. روايات مغلقة، تفتح مع المطر، ثم تغلق بمجرد انتهاء معدات الأمانات وآليات الدفاع المدني من رصد خسائر المواسم الممطرة.. تظل الأحداث مؤقتة في أجندات المسؤوليات، وليس هنالك أسهل من قرارات «تعليق الدراسة» و»تشكيل اللجان»، وإن كبرت المشكلة وكبر مجهر الانتقاد على طلاسم الفساد التي تحاك بخبث تم تشكيل لجنة عاجلة، وإن كانت المدن المكشوف فسادها قد خلع عنها رداء التعتيم، وظهرت أرضها تحت الاختبار الحقيقي لرشة مطر أو سيل عابر؛ فرأينا التبريرات تظهر، والتمريرات تبرز، والكل بات يرمي مسؤوليته على الآخر.
قبل أعوام ظهر الفساد في البر والبحر؛ فخرجت «نزاهة» بتصريحاتها النارية مع كل مشكلة، والنتائج «بيانات إعلامية» و»لجان مؤقتة»، تظل مستمرة حتى تأتي فاجعة أخرى. أما وزارة التعليم فقد فردت عضلاتها، وباتت تعمم تعليق الدراسة في الجامعات قبل المدارس مستغلة «الفرح الشعبي البائس» لدينا عن كل يوم تؤجل فيه الدراسة، أو يؤجل فيه العمل، تمامًا كما تؤجل البلديات الميزانيات، وتترك المقاولين يرتعون بالتسويفات، وينعمون بالمبالغ، ويتمتعون بكل دفعة ميزانية تخصص لدرء أخطار السيول.
المطر موسم رحمة، ولكن هنالك سرادق عزاء يُقام في ثاني أو ثالث أيامه؛ فقد اعتدنا أن لا نرى العمل إلا بعد وقوع الكارثة.. لدينا مستشفيات لا يوجد لديها خطة طوارئ لمواجهة المطر، وتقام مبانيها وكأنها في كوكب لا يمطر ولا يحترق ولا يتعرض للكوارث.. لدينا شوارع صُممت لتكون للاستخدام وقت «الشمس»، وعقبات مصممة كي تكون مهيأة لتساقط الصخور، ومشاريع وُضعت خارج حسابات الطوارئ، وكأنها مؤمَّنة ضد أي ظاهرة طبيعية.
سؤالي: هل هنالك خطط طوارئ استباقية للأمطار؟ هل هنالك لجان فعلية غير تلك التي تنتظر التصوير وتتحرى التوجيه؟
هل دور الجهات المعنية التحرك بعد الفاجعة؟ وما علاقة مسمى وأعمال «الطوارئ» في أجنداتهم وعملها؟ وهل خططهم الاستباقية المستهلكة الجاهزة المكررة مجرد تبريرات وحيل دفاعية للخروج من مأزق الأسئلة ودوائر الاتهام، بل تأكيدات الإدانة؟
ما خطط التعويضات الموضوعة؟ وهل سمعنا ذات يوم بلجنة ميدانية خرجت تحت الشمس في مشاريع؛ لتضع أعمالها الاحترافية لمواجهة مواسم الأمطار؟ إذن، فالتعامل مع السيول ومواجهتها سيكون تمامًا كما واجهت الصحة كورونا، وواجهت الزراعة أسراب الجراد، وكافح التعليم ظاهرة التسرب الدراسي، واجتثت التنمية الاجتماعية الفقر..
بين رحمة المطر وظلمة الفساد ظهرت المعادلة الربانية الممتلئة بالرحمات، والمتراجحة البشرية التي رجحت فيها كفة الفساد؛ فكانت من أنعم المطر كشفها، ووضع حد لها.. أتمنى أن لا تنتهي زخات المطر حتى يحاسب كل من تسبب في هذا الخلل الكبير؛ حتى نرى عملاً يواجه المواسم المقبلة بعيدًا عن رمي المسؤوليات وتقاذف التصريحات.. والكل مسؤول بلا تخصيص.