د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
موالٌ يتكرر كل عام، يتفاءل الناس بالغيث وعندما يهطل بكميات لا نقول غزيرة بل معقولة تبدأ المشكلات في الظهور: كبارٍ تغلق، شوارع تطفح، مبانٍ ومنازل تغرق، بلدات تتحول إلى بحيرات. المواطنون يشتكون وبأعلى صوت مما كانوا بالأمس يُصلّون ويستغيثون من أجله. والأمر بالطبع ليس جديداً أو غير مألوف وإنما يتكرر كل عام في مواسم الأمطار. والمحزن أن هناك مشاريع مليارية كبعض المراكز الثقافية الكبرى أو المطارات التي أشرفت عليها جهات يعُدُّها الناس قمةً في المهنية، نخرها الماء وتحولت إلى بحيرات وكأنه ليس بها أسقف. وقد قال أحد الخبثاء: على الدولة أن تحدد مواسم سقوط الأمطار كمواعيد لاستلام المشاريع وليس أشهر الصيف والجفاف.
بالمقابل هناك مدن رائعة أُسست منذ عشرات السنين، ومبانٍ شيدت قبل عقود قبل ظهور تقنيات العزل المائي واختبارات التسرب الحديثة ولم تنزل بها قطرة ما، فأين يكمن الخلل؟ في المقاولين؟ في التخطيط؟ في الرقابة؟ أو فيها جميعها؟ في كل موسم أمطار يصيح الناس: فساد! فساد! فهل الفساد هو فعلاً السبب؟ وهل فعلاً بعض مقاولينا فاسدون لهذه الدرجة؟ وهل يعقل أن يضمر مقاول لبلده مثل هذا الدمار والضرر؟ هل هذه ظاهرة عامة لكثير من المقاولين أم أن هناك أموراً أخرى؟ أنا لا أعتقد أن الأمر متعلق بالفساد أو المقاولين فقط.
في رأيي أن الموضوع برمته قد يشوبه بعض الفساد، ولكن من المستحيل أن تكون معظم مشاريعنا فاسدة، ومن المؤكد أن الدولة التي تنفق بسخاء على هذه المشاريع تتوقع أفضل النتائج وأحسن المواصفات، وأقوى الاحتياطات عند إنشاء هذه المشاريع. بل إنها تشترط ذلك في عقودها كافة. فأين الخلل إذاً؟ تشخيص الخلل مهم في هذه المرحلة، وهو الضامن الوحيد لتلافيه مستقبلاً. فالتحوط من الماء من أصعب أمور التخطيط والبناء، وإذا زادت الأمطار عن منسوب معين فلا تصمد أمامها أعتى المدن ومنها مدن أوروبية وأمريكية. والمعادلة بسيطة: إذا زادت كمية المياه عن القدرة على التصريف حصل الطفح والغرق.
في نظري إن الخلل في مبانينا ومدننا هو خلل في التنظيم وترتيب الأولويات وتعدد الجهات التي تشرف وتنفذ المشاريع في المدن. ثم تأتي بعد ذلك أمور الصيانة والمتابعة. ويشيد المواطنون بالجبيل وينبع والظهران كل عام لأنها لم تغرق بالمياه، والسبب يعود لأن الجهة التي نفذت البنى التحتية، كهرباء، تلفون، ماء مجارٍ، تصريف سيول، طرق جهات واحدة ضمن مخطط واحد، ولذا انتهت البنى التحتية قبل بدء عمليات البناء. وقد لا يكون للبناء في أراض منخفضة أو حتى مجاري أودية علاقة بتجمع المياه إذا ما كانت هناك بنى تحتية مدروسة جيداً تصرف مياه السيول. وقد نفذت وزارة الإسكان في أواخر الثمانينات، بالتعاون مع شركة فرنسية، حياً متكاملاً شعبياً في شرق الرياض هو حي الجزيرة، وزودته بكل البنى التحتية، وخططت أراضيه، قبل أن يُمنح للمواطنين ليبنوا عليه، ولذا ورغم وجود مناطق منخفضة فيه لا يتأثر مطلقاً بالمطر. وكان يمكن أن يكون نموذجًا للأحياء الأخرى فيما بعد. بينما عانى بعض سكان أحياء راقية كحي النخيل شمال الرياض كثيراً من الأمطار قبل أن تنشأ هناك شبكة للمجاري.
في مشاريعنا الأخرى كالمباني والمطارات يتعدد المقاولون والأجهزة الإشرافية بشكل تصعب إدارته، وهناك عادة اهتمام أكبر بالمظهر والشكل الخارجي من الاهتمام بالأمور الإنشائية التي تخفى عن النظر، ومنها جودة العزل المائي. ولذا فحل مشكلة الأمطار في مدننا ومبانينا له جوانب عدة: تزويد الأحياء بمجارٍ وعبارات صرف كافية لأكبر كمية أمطار متوقعة، متابعتها وصيانتها كل عام قبل مواسم الأمطار للتأكد من سلامتها وعدم انسدادها، التأكد من تأهيل الأراضي والأحياء الجديدة بنُظم تصريف سيول كفؤة قبل البناء عليها. التأكد من سلامة المباني عند بدء الإنشاء وخلاله وليس وقت الاستلام فقط. وربما يجدر بنا الآن، كما سبق وطالب الكثير منا، إنشاء شركات إنشاءات حكومية شاملة مثل تلك التي نفذت الجبيل وينبع وغيرهما. وتوظيف الأعداد الكبيرة من المهندسين السعوديين فيها، وتمكينهم من أجهزتها الإدارية، ويمكن طرحها للاكتتاب العام. فالشركات الوافدة تهتم فقط بوقت التسليم فقط وتفضل أن يكون صيفاً، وهي قد تأخذ مشاريع وتتعامل مع شركات من الباطن تجهل إمكاناتها وكفاءتها. فالفساد ليس كل شيء في موضوع السيول، بل هناك أمور كثيرة أخرى من أهمها محاولة الحصول على أرخص العروض، واستعجال تنفيذ المشاريع في أوقات الطفرات المالية عوضاً عن رصد مبالغها وجدولتها والتأني في تنفيذها. والمأساة الحقيقية أن لدينا الآلاف من المهندسين الوطنين المؤهلين في أفضل جامعات العالم عاطلون عن العمل، والشركات تجلب معها خبرات رخيصة من الخارج قد لا تجيد تنفيذ المشاريع بالمواصفات المطلوبة.