تأخرت كثيرًا في كتابة مقال عنك أو رثاء، لأني لست كاتبًا أو مثقفًا، ولست من رجالات الفكر وسرد التاريخ، فاتحت المجال لمن هم أكفأ مني علمًا وثقافةً، لكي يكتبوا عنك ولو جزءًا بسيطًا عن أشياء نفتخر بها جميعًا، وأنا لا أحمل أي جزء من صفاتك التي تحليت بها طول مسيرة حياتك فقط، أحمل نفس اسمك الذي فخر به والدي منذ ولادتي، لأني أحمل اسم والده الرجل العظيم الذي كان أحد رجالات هذه الدولة العظيمة، استمررت طيلة حياتك محبًا لملكها وأرضها وكان شغلك الشاغل البحث والكتابة والتدوين لكل ما يخص التاريخ، حتى حين مرضك وآخر أيامك لازمتك في المستشفى. وكان دائمًا حريصًا على أن أقرأ عليه الكتب والمراجع أو أكتب له بعض المقتطفات أو الأشعار وكان آخر أبيات كتبتها له عن والدنا خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز لحبه له ولصداقته القوية التي جمعتهما ببعض منذ الصغر وكان هو على السرير الأبيض وقد طلب مني أن أدوّن هذه الأبيات:
سلمان يا جنة لله قد زرعت
في أرضه وانهال منها عميم الفضل والكرم
ضج الجميع وكل الناس تعرفه
يسترسخون بك حماك الله يا رجل
أنت الرشيد فكن يومًا معلمنا
أن الرشاد بأمر الله مقتدر
يا أصدق الناس في قول وفي عمل
وفي التدبر يا ابن السادة والكرم
هذه المفاخر لا أولى لأولها
فأنعم بمجدك يا جوابه الأمم
حصن عظيم وركن أنت سيدنا
فليحفظ الله من أبقى لنا الشمم
كنت منذ طفولتي مرافقًا له في جميع أمور حياته، التي لحقت على جزء بسيط منها؛ وكان يأخذني معه لكل مكان يذهب إليه سواء إلى الذهاب لخادم الحرمين الشريفين أو الأمراء، أو مجالس العلم، أو اجتماعاته الرسمية، أو الثقافية، أو زيارة الأصدقاء، أو زيارة الأقارب، ومن أحد المواقف التي حصلت معي عندما كنا في زيارة للملك سلمان بن عبدالعزيز - حفظه الله- حينما كان وليًا للعهد في وزارة الدفاع حضرنا للسلام، وكان المجلس مليئًا بالناس، وكان الملك سلمان مستقبلاً لبعض الأمراء ووجهاء البلد عندها أقبل جدي للسلام على الملك سلمان، ابتسم الملك سلمان بابتسامة عريضة وقال: له: أهلاً يا ابن رويشد، أهلاً برجل التاريخ ومؤرخ هذه الدولة وتبادلا الحديث قليلاً قبل الجلوس، وعندما خرجنا ونحن في السيارة سألت جدي عن سر ابتسامة الملك سلمان له والترحيب الكبير له، فقال لي: هذا الملك رجل عظيم ومحبته لي دامت منذ الصغر، صحيح أنا أكبر عنه سنًا بقليل ولكن هو يكبرني مكانًا وعلمًا وقدرًا؛ وسر ابتسامته لي أنه أخبرني الملك سلمان في الماضي أنه يعرف سبب زياراتي له في المناسبات ومجيئ له للسلام عليه ولشخصه الكريم وتقديرًا له بعكس بعض الناس الذين يأتون فقط لتأدية الواجب، أو لأغراض أخرى. فعرفت مكانة الملك سلمان بن عبدالعزيز لدى جدي، وعرفت مكانة جدي عند الملك سلمان بن عبدالعزيز، عندما قام بزيارتنا لأكثر من مرة في مستشفى الملك فيصل التخصصي عندما كان يرقد جدي هناك للاطمئنان عن صحته وهذا الشيء غير مستغرب عن ملك القلوب يحمل الحب لجميع أبناء شعبه وهو على كثرة مشاغله؛ فزيارته لمحبته لجدي هي شرف لنا جميعًا. وهنا أذكر موقفًا لجدي يؤكد على مدى تواضعه وعدم استغلال أي نفوذ له، أو التعدي على أحد. أذكر أنه في يوم من الأيام كان يريد الذهاب لإحدى الدوائر الحكومية لإنجاز معاملة، واصطحبني معه وقد كان المكان مليئًا بالمراجعين، فأخبرته بأن نذهب للجهة الأخرى، فهناك مكان مخصص لكبار السن وذوى الاحتياجات الخاصة لكي ننتهي بسرعة، فقال لي: لا يا ابني لسنا بحاجة للذهاب إلى هناك، بل ننتظر مع الناس حتى يأتي دورنا متعنا الله بالصحة والعافية، ونترك ذاك المكان لغيرنا من كبار السن أو لمن يعجزون عن الانتظار، مع العلم كان عمر جدي يفوق الثمانين عامًا في ذلك الوقت. وقال لي: لا يصح أن يستغل الإنسان منصبه أو نفوذه لإنهاء أموره فوق الناس؛ فزرع في نفسي الشيء العظيم والثير بهذه الخصلة التي هي نادرة الوجود في وقتنا الحاضر.
وكان طموحه أن أدرس التاريخ وعلومه ولكن رغبتي اتجهت غير ذلك ودرست القانون، وكان من الناس الذين ساعدوني في دراسة القانون عندما رأى رغبتي متجهة لذلك، وهو من الذين أيدوني مع والدي ووالدتي لإكمال الدراسة وتحضير الماجستير. أتمنى أن أكون عند حسن ظنه -رحمه الله- وأن أمشي ممشاه وأن أكمل مسيرته العطرة التي بناها طول حياته، كان فخرًا لي عندما يطلب مني إنهاء بعض أموره الشخصية، إن عجز عن قضائها أو إعداد خطابات له وأخبرني بشيء أثار في نفسي الكثير، عندما كنت صغيرًا حين قال لي ممازحًا ذات يوم: إنه في الماضي من العقوق، أن تسمي ابنًا لك على أبيك لأنهم يعتقدون أنهم يريدون إسقاط الأب الكبير وزرع نخلة تحته لكي تطير الرأس الكبير، ولكن أنت يا ابني خالفت هذا الشيء وكنت من الناس البارين بي الملازمين لي، فزرع في صدري وسامًا لم استطع الاستغناء عنه طول حياتي، وكنت أبديه دائمًا عن عملي عندما يطلب مني أي خدمة لكي أقوم بها، وكنت أسعد بأي شيء أقوم به وهو في الأصل من الواجب على خدمته ليس لأنه جدي فقط ولكن لأنه رجل عظيم وأحاول أنا وأبناء عمومتي التسابق دائمًا لخدمته، وكان مدرسة لي وللجميع.
رحمك الله يا جدي وصبرنا الله على فراقك وجبر الله قلوبنا على مصابنا، والعزاء والشكر موصول لوالدي خادم الحرمين الملك سلمان بن عبدالعزيز على وقفته الدائمة معنا، وزيارته لنا عدة مرات في المستشفى، والاطمئنان عن صحته واستقباله لنا وتعزيته في وفاة والدنا، وكذلك سيدي صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن نايف ولي العهد، وصاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان ولي ولي العهد، ومفتي عام المملكة سماحة الشيخ عبدالعزيز آل الشيخ، وصاحب السمو الملكي الأمير فيصل بن بندر أمير منطقة الرياض، وأصحاب السمو الملكي الأمراء، وأصحاب السمو الأمراء، وأصحاب السعادة الوزراء، وأصحاب المعالي والفضيلة، والشكر موصول لذلك الرجل الوفي الذي كان دائم السؤال عن جدي وتواصله، المباشر معي شخصيًا للاطمئنان على صحته وزيارته له في المستشفى عدة مرات، صاحب السمو الأمير الدكتور عبدالعزيز بن محمد بن عياف آل مقرن، جزاه الله خير الجزاء على حبه الصادق لجدي، والشكر أيضًا لجميع أصدقائه وأقاربنا الذين وقفوا معنا، في مصابنا هذا ومصابهم والعزاء موصول لعمي الغالي إبراهيم، ووالدي الغالي عبد العزيز، وزوجة جدي ولعماتي الغاليات جميعًا من الكبيرة حتى الصغيرة، وأقول لهم: مات هذا الرجل العظيم جسدًا فقط، ولكن لم يمت في قلوبنا ولا قلوبكم، سوف يبقى عمله وذكره الطيب وحتى علمه الذي سوف نحاول جاهدين أن نواصل به نحن الشباب بإذن الله.
الى جنات الخلد يا جدي، وأسكنك الله فسيح جناته يا رب.
- ابنك عبد الرحمن بن عبد العزيز بن عبد الرحمن الرويشد