عبده الأسمري
عندما يُولد النص الشعري فإنه بمثابة حالة تحتمل الوصف بأكثر من اتجاه في مشهد متكامل ما بين الكلمات والشاعر من جهة، وفلسفة ترابط خاص بين معادلة المنتج والإنتاج من جهة أخرى.
النص الشعري في حضرة كاتبه مجال ظاهر أمام الآخرين يخضع لإعجابهم أو انتقادهم أو حتى منعهم. تظل أعماق النص غائبة أمام المتلقي العادي.. حاضرة في وجدان المتابع الحصيف الذي قد يحلل ملامح القوة الشعرية والانتقاء الأدبي والالتقاء بين المفردة والمعنى في عبارات النص باتجاه رأسي يستقرئ لآفاق النص.. وهناك من يتعمّق في النص ليقرأة من واقع فلسفة النقد ويشرحه من منطلق براعة التحليل اللغوي واللفظي والتفصيل السيكولوجي، ولكن هل يفلح هؤلاء في مطابقة هذا الإبداع التحليلي العميق مع ما يملكه الشاعر من فلسفة أعمق لنصه الذي يمتلكه وشعره الذي يعلم تفاصيله، وإلى أي درجة ينجح النقاد في سبر أغوار نص تفعيلي يمتليء بالتفاصيل الصغيرة والتي تدخل في إطار غيبي عن الناقد المتمكِّن عندما يكون النص مخرجاً باحترافية عالية.
عندما يركن الشاعر إلى ركن قصي ليصنع كوب قهوته بنفسه إمعاناً في طقوس الكتابة يستل قلماً محبباً لنفسه يكتب في مقهى شعبي أو شرفة أو ليلة شتاء ممطرة يستأنس بالوحدة يراقب الوجوه العبرة.. يقرأ ملامح الغربة يتجاذب مع كينونة الحياة ويأنس بألفة الكلمات المتطايرة من عقله والشعور داخل عقله الباطن ليصطاد التفاصيل التي ستشكّل عناوين فارهة لكلمات تتقاطر أدباً على أوراقه المبعثرة تارة والمنتظمة بعد لملمة شتات النص ووحدة صف القصيدة تارة أخرى ما هي إلا جزء من فلسفة النصوص المعتقة بعمق الشاعر وأدواته الشعرية التي قد تتباين من نص إلى آخر وفيها تظهر الروح الشعرية التي متى ما حضرت فاق النص التوقعات وبات في إطارات تجعله في إطار التكريم حتى وإن كان الفهم عنه غير مكتمل حتى من لجان التحكيم التي تظل أدوات اختيارها منصبة على أفق النصوص ولكنها لن تصل إلى أعماق فلسفة الشاعر وفق الحقيقة المفترضة.
ليس كل نص يعكس الفلسفة، وليست كل فلسفة شعرية تخرج نصاً مبهراً يتشكّل للآخرين ظاهرة إبداعية تستدعي التحليل.
في الشعر التفعيلي كان هنالك رواد، لذلك حاولوا أن تكون لهم مدرستهم الخاصة وأبعادهم التي جعلتهم يتغلغلون في هذا الفن العميق بأدوات منفردة لكتابة النص باللغة والروح معاً بعيداً عن تأطير النص وحبسه في تميُّز المفردة وغياب العمق الفلسفي الذي يظل رهان الشعر في تنافس النصوص.
الفلسفة كانت ولا تزال وستظل الفضاء الواسع لأدق تفاصيل التحليل وأعمق أعماق البحث والاستقصاء وهي النقطة التي تنطلق منها خطوط منفردة من العلم والاختراع والإشعاع المعرفي.
وإذا ما ارتبطت المسألة بالشعر فهو ضالة الباحثين عن التذوق المفردي والذوق الجمالي، فالنص أولاً وأخيراً لوحة تشكيلية.. توقيع مهيب.. لا يستطيع تقليده كما هو بخطوطه وتفاصيله إلا الشاعر، وكلما تعقّد النص وتعمّق كانت المهمة أصعب على البحث ولكن.. إلى أي مدى أخضعت النصوص الخاصة بشعراء رحلوا وغادرت معهم فلسلفتهم الخاصة للنص، وهل الآخرون من النقاد والأدباء قادرون على تفكيك مركبات النص بشكل فلسفي عميق، وهل ستكون هنالك مجالات في البحث لهذا العلم وهو فلسفة الشعر.. أم أن المحاولات ستظل محاولات تطارد آفاق النص على مستوى الحياة ووفق ما يلهم الباحث من تحليل للمفردات.. وهل الشعراء الحاليون البارعون في كتابة النصوص التفعيلية لديهم توجُّهٌ إلى تحليل نصوصهم بأدوات فلسفتهم الخاصة لكل نص وهل يملك كل شاعر أطلق نصاً حراً من عمق نفسه أن يملك فلسفة النص بعيداً عن الإيحاءات في معانيه.
ولو أخذنا كأمثلة نصوص محمود درويش ونزاز قباني وعبد الله البردوني ومحمد الثبيتي وفاروق جويدة وجبران خليل جبران وغازي القصيبي ويحيى السماوي وغادة السمان ومحمد الفيتوري وغيرهم الكثير ممن تظهر الفلسفة الظاهرة في عبارات نصوصهم لظل التحليل أفقياً لأنهم وحدهم من يمتلكون المفاتيح السحرية لبلورة النص من أعماقه ولديهم خفايا سيرته الأولى التي انطلق منها.
حيث تتجلى في مفاهيم النصوص العديد من خفايا التحليل.. في حين أن مظاهر دراسات النصوص تحتاج إلى أن يتشارك الشعراء والمبدعون منهم تحديداً في قراءة عميقة لنصوص بعضهم بحكم الموهبة والملكات التحليلية، وما يجوز لهم دون غيرهم من التعمُّق في ثنايا النص.
حتى يظهر للمتلقين والمتذوقين فن حقيقي مكمل للنص محتفٍ بروعته ورونقه يعتمد على قراءته من أعماقه وفق رأي وتحليل وسبر أغوار يقوم بها متخصصون وأدباء وشعراء، ويبقى التحليل الأفقي الدارج متاحاً للجميع في كل الاتجاهات التي تصل إليها الأفكار والاتجاهات التي أخضعت النص للدراسة والتحليل.