ياسر حجازي
(أ)
ماذا تريد من معناك وأنت تمضي باتّجاه العالم: «أن يكون واحداً»؛ ماذا تريد من هذا التوحّد، وما الذي لا تريدُ؟
وإلى أيّ معنٍ تمضي باتّجاه العالم: «إذ يكون متعدّداً»؛ ماذا تريد من هذا التعدّد، وما الذي لا تريدُ؟
بين منزلتين أو فوقهما، هو هذا المعنى الشقيّ الذي لا تستقرّ عليه، هو هذا الذي ربّما تعرفه، لكنك لا تعرفُ الإفصاح عنه: أن تكون مختلفاً ومؤتلفاً في آن معاً، أن لا يكون اختلافك أذيّة لأحد ولا ميزة لك، وأن لا يكون ائتلافك محواً لروحك أو أذيّة، أن لا يكون الاختلاف نزعة استقلال تحمل بذرة فوقيّة وانفصاليّة، أن لا يكون الائتلاف نزعة استبداد يحمل بذرة المحو والذوبان.
(ب)
هو هذا العالم الآن، يمضي اتّساعاً أكثر من أيّ وقتٍ مضى، وليست الفيزياء التي تحدّثني بهذا الاتّساع، فالكون على رحابة أضيق على الإنسان إذا ما حوصر بين دولتين متجاورتين ومتحاربتين، يحدّثُ باتّساع العالم أفرادُهُ في جنوحٍ جديدٍ لإنسان لا ينتمي إلى بقعةٍ، بل بقاع، لا ينتمي إلى لغة، بل لغات؛ هو ذاك الاتّساع الذي يحمل حقّ تقرير المصير باتجاه انفصالات متعاقبة، ولا بأس -في المعنى الشقي الذي لا تستقرّ عليه- إن كان انفصالاً سلمياً، كما يأخذ الاتّساع بمعناه الانفصالي أحلام الكتالونيين بالانفصال عن إسبانيا، أو كما يأخذ الاتّساع في تضادٍ -هو أصل لهذه السرديّة الوجوديّة- بين رغبة اسكتلندا في الانفصال بسبب الانفصال، أو رغبتهم بالانفصال عن المملكة المتّحدة بسبب رغبة في البقاء في الاتحاد الأوروبي، وهذا وجه مختلف للاتّساع بمفارقتيه: اتّساع يفصل العالم إلى أجزاء، واتّساع يجمعه؛
(ج)
إلى ماذا يشير هذا الاتّساع الانفصاليّ والاتّحادي في أوروبا، وكيف يتّسق مع العالم في مفارقاته وبقائه في العالم، في متنه وهامشه أيضاً؟ بينما دعوات الانفصال في علب شرق المتوسّط لا تشير إلى شيء في الإنسان وعالمه؟
أليس الإنسان أساس في معادلة الأوروبيّة، دعوة الانفصال أو الاتحاد! أمّا دعوات الانفصال العربيّة فإنّ الإنسان أبعد ما يكون عن همومها: دعوات تنتصر للموتى على أعناق الأحياء، تنتصر لإباحة الدم ولا تنتصر لحرمته.
حتّى دعوات الاتحاد تختلفُ، لطالما يحلم العربي بالوحدة ليس من أجل العربي الإنسان، بل من أجل وحدة تطمس ما في شرق المتوسّط من تنوّع واختلاف: دعوات تنتصر للتاريخ بحبر المنتصر العربيّ، دعوات لا يهمّها الإنسان، دعوات تنشغل بالتاريخ وتنسى الإنسان.
(د)
هو هذا العالم الآن، يمضي على اتّساعه باتّجاه التقارب أكثر من أيّ وقت مضى، وليس تقارباً على طريقة دول التاريخ العظمى، تقارباً لا يمحو الفرد، تقارباً لا يخاف استقلال الثقافات، ولا تُرعبه تعدّد الدول وازديادها، كأنّما هناك إنسان عالمي متعدّد الثقافات أو فوق الثقافات ومابعدها يتحضّر للظهور في المعنى الشقي الذي لا يستقرّ، كأنّ اليسار الإنساني حينما تخفّف من عبء دوره السياسي بمفهوم النظام والمعارضة، وراح يتفرّغ للإنسان وحقوقه وأحلامه وأمانيه وأوهامه صار أبعد من غيره عن الإنسان-الآلة، وصار أكثر انشغالاً بقضايا الإنسان، ليس بصفته في هذا المكان أو ذاك، إنّما هو هذا الإنسان الذي ليس سواه على هذه الخربة الأرض المعمّرة بقوّة الإنسان.
(هـ)
ولكن، ماذا تريدُ من وراء وحدة العالم الحاضنة للتعدّد، وماذا تريد من العالم المتعدّد الحريص على التقارب؟!
بين هذين المعنيين، ما الذي يعنيك؟
أنْ تخطفَ نفسَكَ بعيداً عن العالم، منكفئاً في حيّزٍ انطوائيٍّ، أعزل إلاّ من معناك الموهوم؛ كيفَ تتنفّسُ؟
أنْ تُحارِبَ طواحين الهواء، وتنقل معارك إلى شبكات الفضاء وطواحينها، لأجل معناك الموهوم؛ ماذا أبقيت للحياة بعد هذا الضنك والهوس؟
هل تمضي باتّجاه الإنسان الذي (ربّما لم يزل في داخلك بقايا منه)، باتجاه ما يجعلك مختلفاً ومتشابهاً مع الإنسان في كلّ مكان، وتنتمي له، لقضاياه، وسعادته، في كلّ مكان.
(و)
أيّها المعنى الشقيّ الذي لا يستقرّ على قرار.