انشغل النقد الأدبي عبر مسيرته الطويلة بالإجابة عن تساؤلات مهمة تتصل بماهية النص، وتفاعلاته الذاتية والموضوعية، فالسويسري فرديناند دي سوسير يرى أن أي نص فني مكون من نصوص أخرى، ويرى شكلوفسكي وهو أحد أقطاب المدرسة الشكلية الروسية أن العمل الفني يُدرك في علاقته بالأعمال الفنية الأخرى، ولعل من أطرف أنواع التناص في الشعر المعاصر، هو تعالق لغة الشاعر الفنية مع مصطلحات علوم وفنون أخرى، لتوظيفها في التعبير عن الحالة الشعورية، واستثمار طاقاتها الفنية، ومن ذلك التناص مع علوم الهندسة، كما نلحظ في قول الشاعرة سعاد الصباح: ( أريد أن أكتبَ/ لأتحرر من الدوائر والمربعات/ التي رسموها حول عقلي)، فالشاعرة تجعل من مصطلحي الدوائر والمربعات رمزاً لكل ما يعيق الشاعرة المبدعة، والمرأة في مجتمعاتنا، كذلك توظف الشاعرة مصطلحات النحو العربي، في خدمة الحالة الشعورية التي تعاني منها، كما نلحظ في قولها:
( فأنا امرأة/ تنفر من أفعال النهي/ وتنفر من أفعال الأمر)
فتستخدم مصطلحات الأمر والنهي للتعبير عن الحالة التي تعانيها المرأة. وتحضر في نصوص الشعراء مصطلحات البلاغة، كما نلحظ في قول الشاعر قاسم حداد:
( إنه يهذي/ يجانس أو يطابق أو يناقض/ إنه يهوي إلى لغة الشرائك)
فيذكر الشاعر مصطلح الطباق ويعني الجمع بين الشيء وضده، ومصطلح الجناس، الذي يعني تشابه اللفظتين في النطق، واختلافهما في المعنى، ويجعل من انحدار الشاعر إلى هذين المصطلحين وقوعاً في شرك اللغة المكررة البعيدة عن مشاعر كاتبها وأحاسيسه، ومما يذكره الشاعر حداد بكثرة في شعره مصطلح النحاة و المصطلحات اللغوية، كما نلمح في قوله:
( تحت الصفر/ من يشرب عصيراً بارداً غير النحاة/ مصححي القاموس/ والباقون يرتجلون قهوتهم/ وينتظرون)
فهو يريد بحديثه عن النحاة الإشارة إلى كل من يتعامل مع اللغة، ولا همّ له إلا العناية بالحفاظ على صحة تراكيبها القديمة كما وردت، فهو يعبّر عن رؤيته الخاصة التي تسعى دوماً لاكتشاف بنى لغوية، وتشكيلات دلالية بعيدة عن البنى المعتادة والمكررة، ولتفجير طاقات اللغة الإبداعية.
لاشك أن الشعراء المعاصرين، ولاسيما شعراء الحداثة، في اعتمادهم على مصطلحات علوم وفنون متنوعة يسعون إلى من خلال ذلك إلى توظيفها في بينية اللغة الشعرية المعاصرة، لتوظيفها واستثمار طاقاتها، ولتحقيق الإدهاش الشعري في تشكيل صورهم الفنية، لكن الذي لابد من التنويه له أن هذا التوظيف اللغوي بحاجة ماسة إلى حسن التوظيف حتى لا يشكل عبئاً على النص الشعري، وإبعاداً عن مراميه الشعرية، و هو ما ينتظر جهود الدارسين والباحثين لإعداد الأبحاث المختصة بهذا الموضوع لكي توضّح موقعه التناصي في القصيدة المعاصرة، ولترصد أشكاله المختلفة، و جمالياته في تشكيل الصورة الشعرية، وهو ما رغبنا الإشارة إليه والتنويه إلى أهميته في هذه المقالة.
- طامي دغيليب