د. عبدالحق عزوزي
دائماً ما أقول في معرض حديثي عن العلاقة بين الدبلوماسية والفكر أن هناك رجالات دولة مقتدرين يجمعون بين الدبلوماسية وفن الكتابة والتنظير ومنهم من يجمع حتى بين الدبلوماسية والملكة الشعرية.. ودائماً ما أستحضر لمن أدرسهم العلاقات الدولية والدبلوماسية القوة الكتابية لرجالات بصموا التاريخ بآرائهم وتآليفهم، بل وحتى مدارسهم الفكرية كهنري كيسنجر وما خلفه وما يخلفه من تنظير إستراتيجي سواء اتفقنا معه أو لم نتفق.. فالبيئة السياسية والاقتصادية والإستراتيجية للدول أصبحت ذات طبيعة فوضوية ومعقدة، والعالم بدأ يتغير بسرعة فائقة وبوتيرة أكبر؛ ولم تجذَّر على أرضية يمكن أن توصف بالديمومة أو الثبات؛ وبدأ منظرو العلاقات الدولية تصيبهم الحيرة أكثر من أي وقت مضى، وقد تراءت إليهم محدودية نظرياتهم عن الأنظمة الإقليمية والدولية، وهي في أصلها متغيرة وانتقالية على الدوام، وتحاول تَوَقُع نظام دولي أو إقليمي له محددات كافية لتثبيت الاستقرار؛ فالإحاطة بالآثار المرتقبة لهذا الوضع العربي والعالمي أمر صعب؛ ولكن صانعي السياسة في حاجة إلى وضوح الرؤية ليضمنوا إعادة تشكيل ما أسميه بالبيئة الحامية للوطن؛ وكما هو الشأن عندما ندرس الإستراتيجية لطلبتنا في الجامعات، فإن فهم هذه البيئة الجديدة ذات المشاكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية، وحتى تتضح لنا الرؤية ونبتعد عن القشرة أو الهامش، إن لم نقل الناقل من الحدث، يتطلب الإلمام بالمنظومات الفرعية المتنوعة، وتبني سياسات أو إستراتيجيات تركز بشدة على القشرة الحامية للدولة والضامنة للاستقرار والازدهار وهو دور الدبلوماسيين الإستراتيجيين ذوي الثقافة العالية.
وفي وطننا العربي نجد علماء أجلاء جمعوا بين المسار الدبلوماسي الطويل والتأليف والكتابة المعتمدة بل وكتبوا أيضاً عن الدبلوماسية في العشرات من المجلدات كالمرحوم عبد الهادي التازي الذي كتبنا عنه مراراً في صحيفة الجزيرة الغراء....
ومن الدبلوماسيين والمفكرين العرب الذين جمعوا بين الموسوعة المعرفية والثقافية والتاريخية وبين الممارسة الدبلوماسية والأستاذية والملكة الأدبية نستحضر هنا الأخ الأستاذ زياد الدريس، المندوب السابق للمملكة العربية السعودية لدى منظمة اليونسكو.. استضفته في إحدى منتديات فاس وعرفت عن قرب قيمته الفكرية والمؤسساتية، وتكونت بيننا أخوة لا يُعلى عليها سواء في زياراتي المتتالية لباريس أو في الملتقيات الفكرية الدولية التي كانت تجمعنا، أو حتى في الرياض عندما تعرفت على والده، حفظه الله، وهو الشاعر الكبير الأستاذ عبد الله بن إدريس.. ومن أقواله الخالدة:
إن كان رزقي يقتضي مني خنوعاً وانصياع
فعلى الغنى مني السلام وبؤس للمجد الأثيل
رباه بلغ بالسلامة زورق الحلم الجميل
وسيرة الأستاذ زياد الفكرية والدبلوماسية والثقافية غنية عن التعريف، تشهد له تلك الكوكبة من الأعمال الفكرية الرائعة التي ألفها، وذلك الشريط الطويل من الخصوصيات الذاتية والجريئة لرجل دولة يعشق بلده ويدافع عن قضاياها ويحب الأفكار النيرة التي عليها الخلاص لشعوبنا، لتكون في جملتها سفراً كبيراً ستقرأ فيه أجيالٌ دروساً من الجهد والبذل العلميين.. ولعل من نافلة القول إن العديد من الدبلوماسيين ورجالات الدولة الذين يمثلون المملكة في الدول والمؤسسات الدولية تميزوا، فضلاً عن قدراتهم الدبلوماسية، باهتمامهم بالكتابة والفن والشعر.. وكل من يجالس الكاتب والأديب والمفكر زياد يلتمس فيه عمق التجربة وأصالة الثقافة السعودية والخليجية والعربية والعالمية وقيمة أبحاثه وذوقه النفيس، وكرمه المعتاد.. وبتجربته الفكرية والثقافية اختمرت شخصيته، وبرزت كنموذج لإنسان سعودي عربي عصامي في تكوينه، ملحاح في أبحاثه، شغوف بتاريخ بلاده، رسول لقيم وطنه وأمته.. ليظل دائم الاتصال بكنانيشه ووثائقه، يستنطقه التاريخ، ويستقرئ المستقبل قريبه وبعيده، يمعن الإنصات إلى صدى القرون وآثار الأجيال، فيزيل اللماط عن أسرارها وطلاسيمها، فتبدو أمامه شفافة، بنجاحاتها وإخفاقاتها، بحروبها وفترات استقلالها...
علمته اليونسكو كما كتب مؤخراً أموراً كثيرة، منها ما تموضع في وعيه فاستطاع كتابته، ومنها ما انزوى في لا وعيه فهو عصيٌّ على الكتابة. وممَّا تعلمه في اليونسكو:
* على الدبلوماسي إذا تأخرت عليه التوجيهات.. أن يعمل وفق التوجّهات.
* السياسة هي أن تكذب حتى يصدّقك الجمهور، والدبلوماسية هي أن تكذب حتى تُصدّق نفسك!
* أقوى رد على الأقوال الكاذبة هو الأفعال الصادقة.
* تعلم في اليونسكو، من مخالطة الناس يومياً بمختلف أجناسهم وأديانهم وأشكالهم، ألا يكره بسهولة.. لكنه يحب بسهولة.
* تربيته التعددية، مع أبيه ثم في اليونسكو، تمنعه من الإيمان بنظرية تفوّق جنس على جنس، فكيف بتفوّق جنسية على جنسية؟!
* جميلٌ أن تحب الشعوب أوطانها، لكن الأجمل أن تحب الشعوب بعضها، وقبيحٌ أن تكره الشعوب بعضها، لكن الأقبح أن تكره الشعوب أوطانها.
* الكراهية لا تبني إنساناً سوياً.. فكيف تبني وطناً قوياً؟!
* ثقافتنا العربية تخسر مرتين:
الأولى: حين يمتنع القارئ النهم عن الكتابة.
والأخرى: حين يتوقف الكاتب النهم عن القراءة....
إن من يجالس الدكتور زياد سيجده وطنياً مفكراً بارعاً ومحاوراً نزيهاً، لطيفاً ومتفتحاً، مستعداً للأخذ والعطاء، يحسن الاستماع في تواضع يساهم في الرفع من مستوى النقاش إلى أعلى مراتب عطاء الفكر الإنساني، فهنيئاً للمملكة العربية السعودية بأبنائها البررة، الذين يرفعون عالياً راية بلدهم في الداخل والخارج، رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه.