أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: اِمْتداداً للسَّبْتِيَّةِ السابقة: أَزِيْدُ تأْكيداً: أنَّ الفلسفة كما أراها ليست شَرَّاً في نفسها، وليستْ هي خيراً في نفسها.. لقد كانت شَرّْاً في الماضي؛ لأنها ميتافيزيقيةٌ بحتةٌ بدَّدتْ العقلَ البشري المخلوقَ المحدود خارجَ إطاره؛ فانَبثَّتْ هباءً لا يحصل منه شيىءٌ.. لقد كانت صراعاً عنيفاً في إثبات النفس، واستكناهها، وخلودها، وفي وجود الله، ووجود المُمْكِن؛ ثم كانتْ تَصْطَدِمُ بمقرَّراتِ الدين اليقينيةِ؛ فلاقتها صَلَبةً منيعة غيرَ مستسلمةِ؛ فطال الجدل ولم يحصلْ الاقتناعُ؛ وحُقَّ لِلْمُتَفَلْسِفِ أن يقول:
برَّح بي أنَّ علومَ الوَرى
اثنانِ ما إنْ فيهما مِن مَزِيدْ
حقيقةٌ يُعْجِزُ تحصيلُها
وباطلٌ تحصيلُه ما يفيد
ومن ثَمَّ وُجدت عُقْدة التكافُوءِ في الأدلة التي قال بها الشُّكَّاك؛ فلم يروا أنَّ حقيقةً ما ينهضُ لها دليلٌ.. كانت عُقْدةُ الشكاك سخافةً وبلادةً وقصوراً فكرياً؛ ولكنها سُمِّيت فلسفة!!.. أمَّا ما ينبغي أنْ تندفعَ فيه الفلسفةُ إلى أبْعَدِ غايةٍ من الطبيعيات، والرياضيات، والكشوفات العلمية، وتوسيعِ نطاق الاستقراء والتجربة: فهذا لم يحدثْ في فلسفتنا الماضية؛ وما حدث فهو إرهاصاتٌ لم تكنْ كَفَتْقِ الفلسفة الحديثة؛ وإذْ اتَّضح أنَّ اقتناعَنا بحقائق الدين يُحتِّم أنْ نواجِهَ بها كلَّ فكرٍ مهما كان جباراً عتيداً؛ وإذْ اتَّضَح أيضاً أنَّ الفلسفة ليست شراً مطلقاً: فليس لأَحد الحق بأنْ يُؤاخِذَني على هذا الاعتناء بفلسفة (ديكارت) التي أتوصَّل بها إلى إثباتِ وجود الله سبحانه وتعالى بصفاتِ الكمال الْمُطْلَقِ والتَّنَزُّهِ الْمُطْلَقِ مِن كلِّ نقصٍ وعيب؛ ردَّاً على الوجوديين الذين يُنْكِرون وجودَ الله؛ ولهذا كُلِّه يَلْزَمُ التَّنْبِيْهُ على هذه لأمور: الأَمْرُ الأوَّلُ أنَّ حملةَ الشريعة لنْ يستطيعوا نشرَها، والاقتناعَ بها، والإقْناعَ بها ما لم يكونوا مُلِمِّين ببعضِ الفلسفات التي تُعِيْنُ على ذلك؛ بِصفتِها وسيلةً للاستمالةِ لا غايةً.. والأَمْرُ الثاني أنَّ فلسفة (ديكارت) تُواكِب الإيمانَ بالدين وتنصر العقيدة، وفيها مددٌ لتحصينِ العقيدة لا في جَوْهَرِ فلْسفتِها؛ فقول الله أصدق، ولكنْ في منهجها ومسلكها.. والأمْرُ الثالث أنَّ (ديكارت) يُوْصَفُ بأنه (أبو الفلسفة الحديثة) كلِّها؛ وهذا التعبير يُغْنِي عن القول بأنه كبيرُ الأثرِ في الفلسفات التي تليه؛ فلابد من تمحيص هذه الفلسفة، ومعرفةِ مالها وما عليها، مع ضرورةٍ العلم بأنَّ (ديكارت) المفكِّرَ العالِمَ: تميَّز بفلسفة في الرياضيات والطبيعيات؛ إلا أنَّ هذه معارفُ لا أُحسنها، وتحقيقُها موكولٌ إلى المختصين؛ وله فلسفة فكرية تتعلق بمنهج البحث والتأليف، ووجود الله، وخلود النفس، وما أشبه ذلك من المباحث الميتافيزيقية؛ ولهذا فَسَأَقْتَصِرُ على ناحية واحدة من نواحي فكره الفلسفي؛ وهي مسألةُ (البحثُ عن اليقين) الذي تَوسَّلَ إليه بالشك؛ لأن عناصرَ فلسفتِه منبثقةٌ من هذا المنهج؛ فالذي يَهُمُّ من (ديكارت) فلسفتُه.
قال أبو عبدالرحمن: إنَّ براهينَ العقلِ عِلْميَّةٌ مَصْدرُها المشاهدةُ في الأنفس والآفاق، والمرجعُ للصورِ المحفوظةِ في الذاكرة من الهُوِيَّات والعلاقات والمفارقات.. والفرد قد يكون بارعاً وهو ابن سبع سنوات في أحكامه وتصوُّراته؛ بل قد يكونُ كذلك في فهم أحكامِ الله الشرعيةِ وأخبارِه؛ إلَّا أنَّ الله رَحِمَهُ فأجَّلَ مَسْؤُولِيَّتَه إلى بُلُوْغِهِ الْحُلُمَ.. ثم إنَّ تَصْنِيْفَ الأحكام يقوم بعد توفيق الله على ملكَتين عقليتين: أولاهما التَّمَيُّزُ بجودة الفهم، ورهافة الإحساس في اللَّمَّاحيَّة؛ وبهذه القوى بعد الله تحصلُ هِبَتُهُ، وتحصلُ ممارستُه العلومَ الصعبة بنزاهة.. ومن عباد الله من هو بليد عُومة وإن مارس؛ فهؤلاء معذورون يقال لهم: (سلام)، ويُزْجرون عن القول فيما لا يعنيهم، ويقال لهم: خذوا النتائج من أهل العلم تلقيناً.. وأخْراهما فِطْرَتُه على فَهْمِ ضروراتِ الخبرة التصوُّريةِ (هوياتٍ، وعلاقاتِ، وفوارقَ)؛ وأهم هذه الضرورات إحالة التناقض والتضادِ، وإيجابُ السببِ الكافي؛ فأما إحالةُ التناقضِ والتضاد: فلذلك حديث يأتي، وإلى لقاءٍ في السبتِ القادِم إنْ شاء الله تعالى, والله المُستعانُ.