حسن اليمني
تحقق الإجراءات الجيدة نتائج جيدة، كالتربة الخصبة الجيدة التي تنتج ثمرًا أجود. وتعتمد جودة الإجراءات على اتزان الرؤية، وسعة مدارك هذه الرؤية، ووضوح اتجاهها. وإن أكثر ما يعيق أو يضعف وضوح الصورة حضور صور ذهنية أخرى، تزاحم الصورة الأصل، وتضعف من بريق وضوحها؛ ما يجعل الإجراء أو التقنين يعاني اختلالاً في الرسم والهدف.
على سبيل المثال، هناك إجراءان حكوميان، صدرا لخدمة المواطن، وتحقيق العدل في الاستحقاق، أحدهما من وزارة الإسكان، والآخر من وزارة العمل والشؤون الاجتماعية، وتظهر فيهما بوضوح ملامح التزاحم في رسم الرؤية المستخلصة من الفكرة المراد تحقيقها، وهي إحقاق العدل في الاستحقاق بأكبر قدر من الضبط والحيطة والحذر. وزارة الإسكان في استمارة التقديم للقرض أو السكن تبحث عن القدرة الائتمانية للمتقدم تمامًا مثلما يبحث حساب المواطن التابع لوزارة العمل والشؤون الاجتماعية الشيء ذاته لاستحقاق الدعم، إلا أن الفارق يظهر في اتجاهين متعاكسين، الأول يبحث المقدرة الائتمانية الحقيقية من خلال معلومات عن الالتزامات المدينة على المتقدم، في حين يتجه الآخر إلى بحث الإيراد الكلي حتى وإن كان مؤقتًا أو غير حقيقي، دون الالتفات إلى الالتزامات المستقطعة من الإيراد، وهو ما لا يرسم حقيقة المقدرة المالية للمتقدم. هذا الاختلاف المتعاكس في الاتجاه الواحد قد يعطي للمتأمل في مضمون العطاءَين أن كليهما في الاتجاه نفسه الساعي لتحقيق الاستحقاق بمعايير الحيطة والحذر نفسها، ولكن يضاف لذلك وجود التضمين المحدد لوجوب الاستحقاق والداعم في الوقت نفسه لتعطيل هذا الاستحقاق استنادًا إلى المعطيات ذاتها، ولكن باتجاهين متعاكسين في تصعيب الوصول إلى الاستحقاق؛ فالأول يبحث المقدرة الائتمانية بحساب في الواقع صحيح، بينما يبحث الآخر الدخل المالي بحساب غير واقعي وغير صحيح؛ ليس لأن الأول أفضل من الثاني؛ بالعكس؛ كلاهما في الاتجاه نفسه، وهو الحد من حجم المستفيدين.
حين يدخل الحد من حجم المستفيدين في رسم صورة الإجراءات اللازمة لتحقيق الاستفادة ينتهي العطاء في النهاية إلى القصور أو التحجيم المتعمد بما يخالف الحقيقة والواقع، وهذا وإن أعطى واجهة إيجابية لمقدم الخدمة إلا أنه بمنزلة حيل تجارية، تمارسها الشركات التجارية والاستثمارية لتحقيق أكبر قدر من الاستفادة بأقل قدر من التكلفة. هذا لا يصح ولا يستحب من واجهة حكومية تهدف لخدمة المواطن باعتبار الخدمة حقًّا مستحقًّا للمواطن، وواجبًا مستوجبًا على حكومته، ولا فوائد أو مكاسب تجارية أو استثمارية في هذا الموضوع؛ فهو معالجة وضع اجتماعي داخل مجتمع واحد متجانس، أو هكذا يفترض، والنتيجة في النهاية لن تكون جيدة مثلما أن النبتة في أرض تفتقر إلى الخصوبة الجيدة لا تنتج ثمرًا جيدًا. ليس هناك صعوبة في فهم هذا وإدراكه؛ فدائمًا ما تكون الحقيقة في واقعها هي المحك الحقيقي للفكرة وسلامتها، وليس الرؤية النظرية حتى وإن كان داعي الحيطة والحذر مرسمها، إلا أن الغاية العليا المتوخاة من العطاء ذاته اعتمادًا على نوعيته وخصوصيته الاجتماعية والوطنية تستدعي رفع نسبة الإيجابية على السلبية في الرسم والإجراء.
برنامج حافز سبق هذين البرنامجين، وهي برامج وطنية لتوفير استحقاق اجتماعي، وقد بات واضحًا للجميع أنه من خلال الإجراءات والتقنين الذي تم رسمه لم يحقق الهدف المنشود بقدر ما ظهر وكأنه نزف مالي بغير هدف قابل للتحقيق؛ فلم يساعد في انكماش نسبة البطالة، بل هي في ارتفاع مستمر، ولم يحقق الفائدة الملموسة للمستحق. وفي اعتقادي، إن البرنامجين الآخرين متجهان إلى الوجهة ذاتها طالما أن الرسم لا يزال يعتمد على المبالغة في الحيطة والحذر أكبر من استشراف النجاح في توفير الاستحقاق المتوجب.
قبل فترة قليلة كنت في بوسطن، وتم قيد مبلغ مالي على حسابي نتيجة عقد انتهى، وحين خاطبت البنك تم فورًا إعادة المبلغ أثناء المكالمة، وطلب مني تقديم مستندات لرفع دعوى لاسترداد المبلغ، يقوم بها البنك نيابة عني. هذا أمر لا يمكن أن يتوافر في مصارفنا التي تستقطع قسط القرض من حسابك قبل تاريخ الاستحقاق، بل توقف الخدمة المصرفية بشكل تام قبل يومين من تاريخ الاستحقاق، وكأنها تتعامل مع مهربي مخدرات لا عملاء مصرف، تودع فيه رواتبهم الشهرية! هذه الثقافة لا يصح أن تكون هي الثقافة نفسها التي ترسم تلك الإجراءات والشروط الوطنية لمنح الاستحقاق الوطني للمواطن.