حل الاستاذ الدكتور: عبدالعزيز بن محمد الفيصل رائد تحقيق الشعر العربي ضيفًا على أحدية الشيخ أبي عبدالرحمن بن عقيل الظاهري، بحضور جمع كبير من العلماء والمثقفين والمهتمين بالتراث، حيث ألقى محاضرة بعنوان: (سحر المكان في الجزيرة العربية)، وقد قدم للمحاضرة الدكتور: عبدالله بن عبدالرحمن الحيدري رئيس مجلس إدارة النادي الأدبي بالرياض، وقد افتتح المحاضرة بالترحيب بالحضور حيث شكر العلامة أبا عبدالرحمن ابن عقيل على عقد هذه المحاضرة والرتيب لها مع شخصية ذات قيمة ثقافية وفكرية كبيرة، وقد سرد شيئًا من سيرة الضيف وأبرز المحطات في حياته.
بعد ذلك شرع الاستاذ الدكتور في إلقاء المحاضرة وفيما يلي نصها:
سحر المكان في الجزيرة العربية
المكان في الجزيرة العربية يحل سويداء القلب، فهو باعث الشعر وجالب الرؤى وجامع التخييل، به يلتئم الشعر وتتوارد الخواطر فكأن شياطين الشعر تقطن بجانبه، وأرواح الأحبة تطير في سمائه لقد مالت القلوب إلى سماعه، وطار الطيف إلى الحلول فيه، فما أعذب لفظه وأحلى لحن حروفه، فكلماته نغمات تجلب السرور، وذكرياته تغمر بالفرح والهناء والحبور، أنطق القريب منه بالشعر الرقيق، وأوحى إلى البعيد عنه بمعاني الحب، فنسجت الأشعار فيه بالوحي وهامت الخيالات فيه بالسماع، فيا ليت شعري ما الذي أودع في المكان في الجزيرة العربية حتى يسحر الشعراء، ويضفي ظله على خيالاتهم فتجود بما لم يستطيعوا قوله في غيره، إنه سؤال يصعب الجواب عنه، ولكن المكان يسأل فيجيب قال مجنون ليلى:
وأجهشت للتوباد حين رأيته
وكبر للرحمن حين رأني
وإن رأى الشاعر المكان صامتاً رفع صوته طالباً الكلام من المكان قال عنترة:
يا دار عبلة بالجواء تكلمي
وعمي صباحاً دار عبلة واسلمي
والمكان يشهد على الحوادث، قال عمرو بن الأسلع العبسي:
إن السماء وإن الأرض شاهدة
والله يشهد والإنسان والبلد
والمكان رمز البعد، قال طرفة:
فذرني وخلقي إنني لك شاكر
ولوحل بيتي نائياً عند ضرغد
ويرمز للمكان بالخصب، قال المتلمس الضبعي:
فهذا أوان العرض جن ذبابة
زنابيره والأزرق المتلمس
وقد يكون المكان رمزاً للبخل، يقول الحطيئة:
مقيم (1) على بنبان يمنع ماءه
وماء وشيع ماء عطشان مرمل
وقد يكون المكان رمزاً للجوع، يقول يزيد بن ضابئ بن رجاء الكلابي:
بسمنان بول الجوع مستنقعاً به
قد اصفر عن طول الإقامة حائلة
ببرقائه ثلث وبالخرب ثلثه
وبالحائط الأعلى أقامت عيائله
له صفرة فوق العيون كأنها
بقايا شعاع الأفق والليل شامله
ويسعف المكان الشاعر في صنع الصورة، يقول عمرو بن كلثوم:
وأعرضت اليمامة واشمخرت
كأسياف بأيدي مصلتينا
ويتداخل المكان مع القبيلة حيث نجد ذلك في قول عمرو بن كلثوم:
متى ننقل إلى قوم رحانا
يكونوا في اللقاء لها طحينا
يكون ثفالها شرقي نجد
ولهوتها قضاعة أجمعينا
فلم يذكر الشاعر غربي نجد وإنما ذكر مساكن قضاعة، وأقوى قبائل قضاعة قبيلة كلب التي تسكن رمال عالج، وتجاورها من الناحية الغربية قبائل من قضاعة أيضاً وهي جهينة وبلي وعذرة، فمساكن هذه القبائل القضاعية متصلة وإن كانت قبيلة كلب في الشمال الغربي من نجد، وقبائل جهينة وبلي وعذرة في شمال الحجاز، ومن تداخل المكان بالقبيلة الشطر الأول من البيت الثاني: (يكون تفالها شرقي نجد)، فالشاعر يقصد حرب تميم التي تسكن حزن بني يربوع شمال الصمان فكنى عن القبيلة بالمكان. ولا يفوتنا ذكر المقابلة بين شرقي نجد وغربيه المتمثل في قضاعة، أو المقابلة بين تميم وقضاعة، وهما من أقوى القبائل النجدية في زمن عمرو بن كلثوم. وقد يرمز إلى الكرم والشجاعة بالمكان، فعمرو بن كلثوم يقول:
ونحن غداة أوقد في خزاز
رفدنا فوق رفد الرافدينا
والمكان يعين على معرفة القبيلة، فعندما نقرأ قول لبيد بن ربيعة العامري:
مرية حلت بفيد وجاورت
أهل الحجاز فأين منك مرامها
فلبيد قال: (مرية) وفي العرب أكثر من (مرة) وعندما ذكر (فيد) عرفنا أن تلك المرأة من مرة ذبيان لأن مرة ذبيان هي التي تسكن (فيد) ويعين المكان موضع المعركة والانتصار على الأعداء، يقول الحارث بن حلزة اليشكري:
إن نبشتم ما بين ملحه فالصا
قب فيه الأموات والأحياء
فالحارث يخاطب تغلب ويقول: انتصرنا عليكم في ذلك المكان الواقع بين الهضبة الشهباء الواقعة في شرقي بيشة وجبل الصاقب الأحمر القريب من الدخول، وينسب الحلف والعهد إلى المكان، فيذكر به بحيث يصعب إنكاره، يقول الحارث بن حلزة اليشكري:
واذكروا حلف ذي المجاز وما قد
م فيه العهود والكفلاء
فذو المجاز: موضع بعرفة تقام فيه سوق لمدة ثمانية أيام، وكان عمرو بن هند جمع بين بكر وتغلب في هذا المكان وأخذ ثمانين رهينة من كل قبيلة. ويحتفظ المكان بالإشارة إلى الحقبة التاريخية، فيوثقها، يقول النابغة الذبياني:
وخيس الجن إني قد أذنت لهم
يبنون تدمر بالصفاح والعمد
وتدمر مدينة بالشام فيها بناء لسليمان بن داود عليهما السلام، والتخييس التذليل، والصفاح والصفائح حجارة عراض، وقبل هذا البيت:
إلا سليمان إذ قال المليك له
قم في البرية فاحددها عن الفند(2)
وإذا وقفنا على تحديد الأماكن الواردة في معاجم البلدان وجدنا جلها حدد عن طريق النقل لا المشاهدة، وتحديد المكان يحتاج إلى: معرفة اللغة ومعرفة طبيعة البلاد التي ذكر فيها المكان، ومعرفة أنساب القبائل ومواطنها، فقضاعة متفرقة، وتغلب متنقلة، ومعرفة الأماكن التي وردت في شعر القبيلة، فأنا عندما حددت أماكن عبس وذبيان فإنما جاء التحديد بعد دراسة مستفيضة للقبيلة وأماكن حروبها وإقامتها، وعندما طلبت مني هيئة السياحة تحديد أماكن عبس في الشمال الغربي من القصيم حددتها من هذا المنطلق: اللغة؛ دراسة القبيلة وحروبها، وشعرها وتنقلاتها، وكذلك فعلت في تحديد الأماكن الواردة في شعر بني قشير، والأماكن الواردة في شعر بني عقيل.
ومعاجم البلدان تحوي الجغرافيا والأدب مما يطلق عليه (الأدب الجغرافي) فالمستشرق الروسي (كراتشو فسكي) ألف كتاباً أسماه (تاريخ الأدب الجغرافي) فقد رأى مؤلف هذا الكتاب أن في كتب الجغرافيا عند العرب أدباً جماً يحسن الالتفات إليه، فقد كتب بأسلوب وصفي يرقى إلى الأساليب الأدبية الفنية، وفي الواقع أن ما قاله كراتشو فسكي عن كتب الجغرافيا عند العرب والمسلمين إنما هو الحقيقة عينها، فإذا استعرضنا كتاب البكري (معجم ما استعجم) وكتاب ياقوت الحموي (معجم البلدان) أو كتاب أسامة بن منقذ (المنازل والديار) وجدناها قد كتبت بأسلوب وصفي راقٍ، بالإضافة إلى ما اشتملت عليه من الشعر وسير الرجال.
أما كتب الرحلات فالأدب فيها محسوس لأنها تعبر عن نفس الأديب في حالات سفره من إعجاب أو قسوة طريق أو خوف، لذا فإن تناول الأدب فيها لا يحتاج إلى توضيح.
وكتاب البكري يتقدم معاجم البلدان، لما يحويه من الشعر والأخبار، والأنساب، بالإضافة إلى الاستفادة من الشعر في تحديد الأماكن فمما رواه البكري بسند إلى عبدالله بن عباس (أن رجلاً سأل ابن عباس عن ولد نزار بن معد، فقال: هم أربعة: مضر، وربيعة، وإياد، وأنمار. ومنازلهم مكة، وأرض العرب يؤمئذ خاوية، ليس بنجدها وتهامتها وحجازها وعروضها كبير أحد، لإخراب بختنصر إياها وإجلاء أهلها إلا من اعتصم برؤوس الجبال، ولاذ بالمواضع الممتنعة، متنكباً لمسالك جنوده، ومستن خيوله)(3)، فمؤلف هذ الكتاب أندلسي، ولم يعرف أنه زار الجزيرة العربية، ومع ذلك فمعجمه (معجم ما استعجم) من أوائل المعاجم وأدقها في تحديد الأماكن. لقد حدد الأودية والجبال والمواضع من خلال الاسترشاد بالشعر، فبقي مؤلفه يسترشد به من جاء بعده، فياقوت الحموي استعان بعمل أبي عبيد البكري في مؤلفه معجم البلدان، ومع أن معجم ياقوت أكثر شمولاً فإن معجم البكري أكثر أدبية من معجم ياقوت. ومهارة أبي عبيد البكري الأدبية مزجت الجغرافيا بالأدب إلى حد كبير، واستخدمت السرد الإخباري في ربط أنساب القبائل باستيطانها البلدان. وأسوق ربط نسب ثقيف باستيطانها الطائف، ثم ربط اسم الطائف بخبر الرجل الحضرمي، قال أبو عبيد البكري: كان قسي وهو ثقيف يعمل لدى امرأة يهودية في وادي القرى، فلما أحست بدنو أجلها دفعت إلى قسي (ثقيف) ذهباً وقضبان عنب، وقالت اذهب حتى تصيب وادياً يتوافر فيه الماء، فإذا أصبته فاغرس قضبان العنب، فحمل قسي الذهب وقضبان العنب، وسار على وجهه حتى إذا كان قريباً من وج وهو الطائف إذا هو بأمة يقال لها خصيلة ويقال (زبيبة) ترعى ثلاثمائة شاة فأسر في نفسه طمعاً فيها وفطنت له فقالت: (كأنك أسررت في طمعاً: تقتلني وتأخذ الغنم قال: إي والله، قالت: والله لو فعلت لذهبت نفسك ومالك وأخذت الغنم منك، أنا جارية عامر بن الظرب العدواني سيد قيس وحكمها، وأظنك خائفاً طريداً. قال: نعم، قالت: فعربي أنت؟ قال نعم، قالت: فأنا أدلك على خير مما أردت.
مولاي إذا طفلت الشمس للإياب يقبل، فيصعد هذا الجبل، ثم يشرف على هذا الوادي فإذا لم ير فيه أحداً وضع قوسه وجفيره(4)، وثيابه، ثم ينحدر في الوادي لقضاء حاجته ثم يستنجي بماء من العين ثم يصعد فيأخذ ثيابه وقوسه، ثم ينصرف، فيخرج رسوله فينادي: ألا من أراد الدرمك(5)، واللحم والتمر واللبن فليأت دار عامر بن الظرب، فيأتيه قومه؛ فاسبقه إلى الصخرة واكمن له عندها، فإذا وضع ثيابه وقوسه فخذها فإذا قال لك من أنت؟ فقل: غريب فأنزلني وطريد فآوني وعزب فزوجني فإنه سيفعل)(6)، وفكر قسي في توجيه الجارية أهو نصح أم مكيدة، وبعد محاورة بين الأخذ به أو عدم الإقدام على أخذ الثياب والقوس عزم على الإقدام والأخذ بما أمرته الجارية به، (ففعل ذلك قسي فقال له: من أنت؟ فقال: أنا قسي بن منبه، وأنا طريد فآوني وغريب فأنزلني وعزب فزوجني، فانصرف به إلى وج، وخرج مناديه فنادى: ألا من أراد الخمر واللحم والتمر واللبن فليأت دار عامر بن ظرب فأقبل كل من كان حوله من قومه، فلما أكلوا وتمجعوا وفرغوا، قال لهم: ألست سيدكم وابن سيدكم وحكمكم؟ قالوا بلى.
قال: ألستم تؤمنون من أمنت وتؤوون من آويت، وتزوجون من زوجت؟ قالوا بلى: قال: هذا قسي بن منبه وقد زوجته ابنتي وآويته معي في داري وأمنته. قالوا نعم فقد جوّزنا ما فعلت، فزوجه ابنته زينب فولدت له عوفاً وجشم ودارساً، وهم في الأزد بالسراة)(7). ويمضي البكري في سرد تحول قسي إلى ثقيف فيقول: (وغرس قسي تلك القضبان بوادي وج فأنبتت فقالوا: قاتله الله ما أثقفه حين ثقف عامراً حتى أمنه وزوجه، وأنبتت تلك القضبان حتى أطعمت فسمي ثقيفاً يومئذ)(8)، وينطلق البكري إلى تعليل اسم الطائف بعد سرد الخبر في اسم ثقيف، فيقول في شأن الرجل الحضرمي الذي هرب من حضرموت وقصد وجاً، يقول البكري: (ثم خرج هارباً حتى نزل بوجّ، فحالف مسعود بن معتب ومعه مال عظيم، فقال لهم: هل لكم أن أبني لكم طوفاً عليكم يكون لكم ردءاً من العرب؟ قالوا نعم، فبنى لهم بماله ذلك الطوف، فسمي الطائف، لأنه حائط يطيف بهم)(9). ومن السرد الإخباري في معجم ما استعجم، حروب إياد مع الفرس في بلادهم العراق، فقد أصاب بعض سفهاء إياد امرأة اسمها سيرين، فكانت سبباً في تتبع الفرس لإياد حيث قتلت منهم رجالاً وأخذت إبلاً، ومن زعمائهم المقتولين ثواب، وقد تولى الزعامة في إياد بياضة بن رياح بن طارق الإيادي، فاستعد لمعركة جديدة مع الفرس، وحصن شاطئ الفرات العربي، وزحفت الفرس واجتازت النهر، فلما التقى جمع إياد بجيش الفرس أخذت هند بنت بياضة تنشد الشعر، ونساء إياد تردد قولها دعماً للمقاتلين، ومما قالت:
نحن بنات طارق
نمشي على النمارق
والمسك في المفارق
مشي القطا النواتق
إن تقبلوا نعانق
ونفرش النمارق
أو تدبروا نفارق
فراق غير وامق
وقد انتصرت إياد على الفرس في هذه المعركة، وقد اشتهر هذا النشيد، ويقال إن هند بنت عتبة أم معاوية أنشدته يوم أحد، كما قيل فيه؛ إنه للزرقاء الإيادية، ومما يؤيد أنه لهند بنت بياضة أن طارقاً المذكور في الرجز جد والدها (بياضة)، ويتابع البكري عرض تاريخ إياد وأيامها مع الفرس، فبعد انتصار إياد على الفرس عزم كسرى على إبادة إياد، وكان الشاعر لقيط بن يعمر بن خارجة بن عوبثان الإيادي محبوساً عند كسرى فأمره كسرى أن يكتب لقومه أن يجتمعوا حتى يبيدهم مجتمعين، فكتب لقيط:
سلام في الصحيفة من لقيط
على من بالجزيرة من إياد
بأن الليث يأتيكم دليفاً
فلا يشغلكم سوق النقاد(10)
ثم أرسل لهم العينية المشهورة:
يا دار عمرة من محتلها الجرعا(11)
هاجت لي الهم والأحزان والوجعا
ثم يقول:
أبلغ إياداً وخلل(12) في سراتهم
أني أرى الرأي إن لم أعص قد نصعا
يا لهف نفسي إذا كانت أموركم
شتى وأحكم أمر الناس فاجتمعا
ألا تخافون قوماً لا أبا لكم
أمسوا إليكم كأرسال الدبى سرعا
أبناء قوم تآيوكم(13) على حنق
لا يشعرون أضر الله أم نفعا
في كل يوم يسنون الحراب لكم
لا يهجعون إذا ما غافل هجعا
ما لي أراكم نياماً في بلهنية(14)
وقد ترون شهاب الحرب قد سطعا
يا قوم بيضتكم لا تفجعن بها
إني أخاف عليها الأزلم الجذعا(15)
يا قوم لا تأمنوا إن كنتم غيراً
على نسائكم كسرى وما جمعا
هو الفناء الذي يجتث أصلكم
فمن رأى مثل ذا رأياً ومن سمعا
وقلدوا أمركم لله دركم
رحب الذراع بأمر الحرب مضطلعا
لا مترفاً إن رخاء العيش ساعده
ولا إذا عض مكروه به خشعا
ما انفك يحلب هذا الدهر اشطره
يكون متبعاً طوراً ومتبعاً
حتى استمرت على شزر مريرته
مستحكم السن لا قحماً ولا ضرعا(16)
لا يطعم النوم إلا ريث يبعثه
هم يكاد شباه يفصم الضلعا(17)
مستنجداً يتحدى الناس كلهم
لو صارعوه جميعاً في الوغى صرعا
لقد نخلت لكم رأيي بلا دخل
فاستيقظوا إن خير العلم ما نفعا(18)
وبما أن البكري يعتمد على الشعر العربي في تحديد الأماكن في الجزيرة العربية، فقد أورد جزءاً من قصيدة الأخنس بن شهاب التغلبي التي تبدأ بقول الأخنس:
لابنة حطان بن عوف منازل
كما رقش العنوان في الرق كاتب
وهذه القصيدة تحدد مساكن القبائل العدنانية، فبنو عبد القيس، ومنهم لكيز بلادهم البحرين أي الساحل الشرقي من الجزيرة العربية، وقبيلة بكر تقطن اليمامة وبرَّ العراق، وتجتمع مع بني عبدالقيس في ربيعة، وذكر لخماً في القصيدة مع أنه يتحدث عن القبائل العدنانية، وقال إن تغلب قبيلة متنقلة، مع أنها تقطن اليمامة، ثم انتقلت إلى العراق فمساكنها تجاور بكراً في اليمامة والعراق، ومساكن تميم في الجاهلية بين الصمان والدهناء في حزن بني يربوع، وقبيلة كلب القضاعية تسكن رمال عالج، وتجاورها أختها بهراء القبيلة القضاعية، فمساكن بهراء شمال نجد وجنوب الشام، وذكر غسان مع أنها ليست من القبائل العدنانية، ومنازل إياد في سواد العراق، يقول الأخنس:
لكل أناس من معد عمارة
عروض إليها يلجؤون وجانب(19)
لكيز لها البحران والسيف كله
وإن يأتها بأس من الهند كارب(20)
تطاير عن أعجاز حوش كأنها
جهام أراق ماءه فهو آيب(21)
وبكر لها ظهر العراق وإن تشأ
يحل دونها من اليمامة حاجب(22)
وصارت تميم بين قف ورملة
لها من جبال منتأى ومذاهب(23)
وكلب لها خبت فرملة عالج
إلى الحرة الرجلاء حيث تحارب(24)
وغسان حي عزهم في سواهم
يجالد عنهم مقنب وكتائب(25)
وبهراء حي قد علمنا مكانهم
لهم شرك حول الرصافة لا حب(26)
وغارت إياد في السواد ودونها
برازيق عجم تبتغي من تضارب(27)
ولخم ملوك الناس يجبى إليهم
إذا قال منهم قائل فهو واجب(28)
ونحن أناس لا حجاز بأرضنا
مع الغيث ما نلقى ومن هو غالب(29)
وسحر المكان في الجزيرة العربية أغرى البعيد عنها فتشوق إلى تلك الأماكن التي وردت في قصائد شعراء الجاهلية وشعراء الإسلام ولما لم يستطع البعيد رؤية تلك الأماكن جعلها مادة أدبه، فهي تمده بالخيال الخصب والرؤى الخلاقة، فكم من قصيدة نظمت في نجد أو في أماكن في نجد وشاعرها بعيد عن نجد، ومع ذلك جاءت القصيدة أو الأبيات ملبية رغبة الشاعر، حيث أودعها شوقه، فالعاطفة متوقدة والشوق متجدد، فنجد ملهم الشعراء وموقد الحنين ومشعل العواطف، وعندما نقف على شعر محمد بن أحمد الأبيوردي كأنموذج لشعر الشعراء الذين تشوقوا إلى أماكن الجزيرة العربية نجد شعراً تتوافر فيه العاطفة الجياشة والأسلوب المنقاد والألفاظ الموحية والعبارات الرقيقة، فما أعظمها من حوافز صنعت لنا أدباً جماً حوته الدواوين وكتب المؤلفين، فهو أنس المجالس ومقصد الدارسين وهدف الرواة، فوحي تلك الأماكن أنس الشاعر وأطرب المستمع، فبقيت أشعاراً تروى على امتداد التاريخ، وكأنها لشعراء رأت أعينهم تلك الأماكن ووطأت أقدامهم أحجار تلك الأعلام ومست أجسامهم تربة المكان الذي تحدثوا عنه، وأورد أبياتاً للأبيوردي كأنموذج لتلك الأشعار التي حنَّ أصحابها إلى الأماكن في الجزيرة العربية، يقول الأبيوردي:
ألام على نجد وأبكي صبابة
رويدك يا دمعي ويا عاذلي رفقا
فلي بالحمى من لا أطيق فراقه
به يسعد الواشي ولكنني أشقى
وأكرم من جيرانه كل طارئ
يود وداداً أنه من دمي يسقى
إذا لم يدع مني نواه وحبه
سوى رمق يا أهل نجد فكم يبقى(30)
ويقول:
ألا ليت شعري هل تخبّ مطيتي
بحيث الكثيب الفرد والأجرع السهل(31)
ألذ به مس الثرى ويروقني
حواشي رُباً يغذو أزاهيرها الوبل
ولولا دواعي حب رملة لم أقل
إذا زرت مغناها به سقي الرمل(32)
ويقول:
أعصر الحمى عد فالمطايا مناخة
بمنزلة جرداء ضاح مقيلها
لئن كانت الأيام فيك قصيرة
فكم حنة لي بعدها أستطيبها(33)
ونجديات الأبيوردي تمثل نصف ديوانه، وقد شرح قسم النجديا شروحاً كثيرة مما يدل على أثر النجديات في القراء على مر العصور(34).
وبما أنني مثلت بالأبيوردي للذين تغنوا بنجد وأماكنها وهم لم يروها فإنني أمثل بشاعر واحد كأنموذج للشعراء الذين عاشوا في نجد وغادروها وهو الصمة بن عبدالله القشيري، فقد ذكر نجداً في شعره كثيراً وكذلك الحمى، وذكر قرقري وحصن الباهلي وتبراك والنير وسواج والهضب وحائل، وأذكر أبياتاً فيها نجداً والحمى، يقول:
تمتع من شميم عرار نجد
فما بعد العشية من عرار
ويقول:
قفا ودعا نجداً ومن حل بالحمى
وقل لنجد عندنا أن تودعا
بنفسي تلك الأرض ما أطيب الربى
وما أحسن المصطاف والمتربعا
وأذكر أيام الحمى ثم أنثني
على كبدي من خشية أن تصدعا
فليست عشيات الحمى برواجع
عليك ولكن خل عينيك تدمعا
وندع كبد نجد لنذكر أماكن في الشمال الغربي من نجد منها:
قطن: جبل مشرف على الحاجر وعلى موضع الصلح بن عبس وذبيان وعلى وادي الرمة ويقع في الشمال الغربي من نجد، يقول امرؤ القيس:
علا قطناً بالشيم أيمن صوبه
وأيسره على الستار فيذبل
قلهى: ماء قريب من قطن وقع فيه الصلح بين عبس وذبيان، ويقع في الجنوب من قطن.
ذات الإصاد: مضمار السباق بين فرس قيس بن زهير (داحس) وفرس حذيفة بن بدر (الغبراء) وقد سبق داحس فصده غلمان حذيفة بن بدر فحصلت الحرب بين عبس وذبيان، وموضع السباق يقع بين جبل طمية من الناحية الغربية الجنوبية وجبل قطن من الناحية الشرقية الشمالية، ويمر السباق بفيضة ذيبان وهي محرفة عن (ذبيان) وبالقرب من بداية السباق غار منبسط يقع في مرتفع ويشرف على مضمار السباق، وكان قيس بن زهير وحذيفة بن بدر يجلسان في هذا الغار المفتوح والمشرف على السباق، والإصاد التي وقع فيها السباق أرض منبسطة ويحيط بها من الناحية الشمالية والشرقية والشمالية الغربية الهضب.ذو حسى: واد يمتد من الشمال إلى الجنوب، وقع فيه يوم من أيام داحس والغبراء، وقد دفعت عبس ثمانية من أبنائها رهائن عند ذبيان وقد رأى حذيفة قتل الرهائن فيأمر بوضع الرهينة على مشرف من الأرض ثم يقول للرهينة ناد أباك وعند ذلك يطلق السهم على الرهينة، وموقع دفع الرهائن جنوب شرق النقرة بسبعة أكيال. الهباءة: مستنقع ماء في أعلى وادي (ذو حسى) من أرض الشربة شمال شرق النقرة، وقد وقع في الهباءة يوم من أيام داحس والغبراء قتل فيه زعماء فزارة: حذيفة بن بدر وحمل بن بدر وغيرهما.
وقد أقبل فرسان عبس على الهباءة وهم يقولون: لبيكم لبيكم إشارة إلى استغاثة الرهائن عند قتلهم لأن حذيفة بن بدر يضع الرهينة علماً للرامي ثم يقول له ناد أباك فإذا نادى أباه قتله على تلك الحال، يقول عمرو بن الأسلع العبسي:
إن السماء وإن الأرض شاهدة
والله يشهد والإنسان والبلد
أني جزيت بني بدر بسعيهم
على الهباءة قتلاً ما له قود
لما التقينا على أرجاء جمتها
والمشرفية في أيماننا تقد
علوته بحسام ثم قلت له
خذها حذيف فأنت السيد الصمد
ويقول الحارث بن زهير العبسي:
تركت على الهباءة غير فخر
حذيفة حوله قصد العوالي
والهباءة في اللغة البئر القديمة المندثرة بحيث إنها تحولت إلى حفرة يستنقع فيها ماء المطر، وما زالت الكلمة مستعملة في نجد، وقد أثبتها في كتابي (من غريب الألفاظ).
شرْج (شري) ماء لعبس توفي عنترة بالقرب منه.
ناظرة: رملة قريبة من شرج، وقد توفي عنترة بين شرج وناظرة وقد وقفت على المكان ووضعت إحداثية لمكان موت عنترة وقبره، وقبر عنترة يقع في هذا المكان على طريق بريدة حائل القديم، شمال بريدة بمائة وعشرين كيلاً، فقد خرج عنترة يبحث عن بعير له وقد تجاوز الثمانين، فهبت عاصفة رملية سدت الأفق بالتراب، ويبدو أن عنترة مصاب بالربو فتوفي على أثر ذلك، والعواصف الرملية في القصيم تسد الأفق بالتراب، وقد عانيت منها في سفري من بريدة إلى المدينة قبل عشرين عاماً وتلك المعاناة أفادتني في معرفة السبب في وفاة عنترة.
الحاجر: يقع في الغرب من جبل قطن وحدوده بارزة، وقد عاش فيه زهير بن أبي سلمى والحطيئة وكعب بن زهير.
... ... ...
هوامش
(1) المقيم على بنبان: الزبرقان بن بدر
(2) الفند: الخطأ في القول والفعل
(3) معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع، تأليف: الوزير الفقيه أبي عبيد، عبدالله بن عبدالعزيز البكري الأندلسي المتوفى سنة (487هـ) تحقيق مصطفى السقا. نشر عالم الكتب، بيروت: الطبعة الثالثة 1403هـ- 1983م ص 5.
(4) الجفير: جعبة السهام.
(5) الدرمك: الخبز من الدقيق النقي.
(6) معجم ما استعجم ص 65.
(7) معجم ما استعجم ص 66.
(8) المصدر السابق ص 66.
(9) المصدر السابق ص 67.
(10) النقاد: صغار الغم.
(11) الجرع: المكان الواسع الذي فيه حزونة وخشونة وهو منبت.
(12) خلل: خصص.
(13) تآيوكم: قصدوكم.
(14) بلهنية: رخاء العيش، وهو يريد الغفلة.
(15) بيضتكم: موضوع عزكم، الأزلم الجذع: تيس الجبل ويستعار للدهر.
(16) قحم: القحم: الكبير، والضرع: الصغير.
(17) ريث يبعثه: مقدار ما يبعثه، شباه: حده.
(18) معجم ما استعجم ص 73.
(19) عمارة: حي عظيم، عروض: ناحية.
(20) لكيز: هو لكيز بن أفصى بن عبدالقيس بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة، بن نزار، البحران: بلاد البحرين، السيف: ضفة البحر، كارب: شدة الأمر.
(21) حوش: إبل حوشية نافرة.
(22) بكر بن وائل بن قاسط بن هنب بن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة.
(23) القف: ما خشن من الأرض، حبال: حبال الرمل.
(24) كلب: هو ابن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة بن مالك بن عمرو بن زيد بن مالك بن حمير، رملة عالج في شمالي الجزيرة العربية، الحرة الرجلاء: لا يسير فيها إلا الراجل أما الخيل فلا تسير فيها.
(25) مقنب: جماعة من الخيل.
(26) بهراء: هو ابن عمران بن الحاف بن قضاعة بن مالك، شرك: صحراء الرصافة: ناحية حمص في الشام، لا حب، طريق منقاد.
(27) برازيق: كتائب.
(28) لخم من قحطان ينتهي نسبهم في سبأ.
(29) حجاز: حاجز، نلقى: أي حيث ما يلقى الغيث نلقى معه، لا نمتنع بحرار ولا جبال. ومن هو غالب: أي من هو غالب يكون مع الغيث.
(30) معجم الأدباء 17-261.
(31) الأجرع: الأرض السهلة وبها رمل يختلط بالأحجار الصغيرة.
(32) معجم الأدباء 17-257.
(33) المصدر السابق 17-246.
(34) وفاة الأبيوردي سنة (507هـ) ومن شروح النجديات شرح علي بن القاسم الطبري الأستراباذي سنة 683 وجهد المقل وجهد المستدل للنظام (عمر بن القوام) سنة 1130هـ.