ومضت تلك المرأة الصالحة بابتسامتها الوضاءة، وبشاشتها التي لا تغيّبها أحلك المواقف، ولا تخفيها الأوجاع التي كانت تكابدها.. مضت مَن جعل الله فيها معاني الطيبة وحلاوة اللقاء ونبع التسامح.. كم سيفتقدها المصحف الذي لا يفارق يديها الطاهرتين، وكم سيبكيها رداء الصلاة الذي يعانقها في ظلمة الليل، وتلك الجموع من محباتها اللواتي يتوافدن إلى منزلها لحضور الدروس.. مضت ومضى معها المعنى الحقيقي للإيثار، وتوارت معها نظرات كانت تبث الحنان، وأكف كانت ترتفع بالدعاء للحنان.. مضت وهي تحمل قلبًا يقول الأطباء إن الأوجاع أنهكته، ويقول الواقع إنه القلب النقي الأبيض السليم.. رحلت وليس لها مع أحد خصومة، رحلت وقد كسبت محبة الجميع.. توارت محبة المساكين المشفقة على الضعفاء الواصلة للأقرباء الجامعة لجاراتها الحانية على بناتها الوفية لزوجها الداعية بأخلاقها المتغافلة عن الزلات المقيلة للعثرات.. كأنما لسانها لا يعرف إلا أحرف الطيبة وكلمات المودة.. وجودها يكفي ليضفي على المكان أنسًا، يُنسي الهموم.. تبادر من قطع، وتفوق من وصل.. تستقبلك وتودع بأعطر التحايا وأجمل البسمات وأشمل الدعوات.. ما أصعب فقدها.. عشنا معها سنوات طوالاً لم نرَ منها إلا ما يسر.. يخجلنا تواضعها، ويحيرنا تسامحها.. إن كان ثمة نبع للإصلاح فهو ثغرها حين ينطق بأبسط الكلمات، لكنها الأصدق، تطرح عن كواهلنا هموم المواقف الكبار بكلماتها التي تفيض حنانًا؛ فتذيب معها الأحزان، وتحيل الغضب أسفًا على ما كان.. هي درة من درر الزمان، وهبة من الرحمن، تتنزل في بساطتها حين تجالس أحفادها الصغار، وتلاعبهم وكأنهم أقرانها، وتؤثر من يماثلها عمرًا حتى كأنه أكبر منها، لا تعرف عتابًا متشنجًا، وتلتمس العذر لمن أعجزه الواقع عن الاعتذار.. تتصل إن تأخرنا بالزيارة، وتحتفي بنا إن قدمنا حتى كأن من يزورها أهم غائب لها.. تعجز أن تحدد الأغلى عليها لشعور كل واحد بأنه ذاك..
هي أسطر دونتها أناملي بعد أن نقلتها عيناي مدونة في قلوب كل من يحيطون بها، وكأني أتحدث بألسنتهم جميعًا، وأثق بأني سأُلام على التقصير فيما نقلته عنها نيابة عنهم، لكنهم يلتمسون لي العذر؛ فالفقد موجع، والأحرف ثكلى.. رحمها الله، وثبتها بالقول الثابت، وجعل قبرها روضة من رياض الجنان، ونوديت من أبواب الجنة الثمانية تدخل من أيها شاءت بفضل الرحمن الرحيم.
** **
- منصور بن صالح العمري