د. خيرية السقاف
في المساء, كان قد ترك باب بيته موارباً علها أن تعود, وصدق حدسه..
تجر أذيالها ببطء, وجزء من قدمها اليسرى يتمرّغ في طريقها مجروحاً,
تلهث جوعاً, وعطشاً,
دخلت فأسرع إليها , حملها بلهفة نحو مغسلها, ما لبث أن عاد بها إلى ركنها الدافئ, بعد أن غسلها, وجففها, يحملها بحنو..
حاول إطعامها, أشاحت برأسها صوب جهة أخرى, ما أفرجت شفتيها للقمة, ولا لقطرة,
كل الذي فعلته أنها ذهبت تنظر في عينيه, وأطالت.
في وجهها تساؤل عميق, وحزن طاغ , وكثير مما لا تقول..
تعوّد منها أن تكون نبيهة نشطة, متحركة, مدهشة, لعوباً, ومشاغبة..
يعرف إيماءاتها, ويفهم مرادها, ويسرع لتلبية طلباتها, لكنها بعد عودتها من الشارع باتت صامتة, ساكتة, هادئة, حزينة, متأملة,خائبة, خامدة..
ذهب بها في اليوم التالي إلى الطبيب, هناك وجد الإجابة بسلامة جسدها,
لكن داخلها ما الذي اعتراه.. ؟!
« اكتئاب» , قال الطبيب: مصابة باكتئاب..؟
إذن لحقتها صدمة نفسية ؟!
ضحك الطبيب , وأومأ بدهشة ربما !!
وهو بها في طريقه للمنزل, تمنى بشغف أن يتسلل لجوفها, أن يبسط صفحة يومين غابتا فيهما, ما الذي رأته..؟, ما الذي سمعته..؟. ما الذي عكر نقاءها, ما الذي شطر اطمئنانها, من الذي خدش سلامها, ودلق فيها أحزنها..؟!
الإنسان؟! , ومن غيره الذي يفعل؟!
الإنسان ؟! , بتلويثه الطريق, والمنعطفات, والممرات؟, بأسواره الصادة الساجنة , وبأبوابه المغلقة؟! , بإيثاره ذاته, وعنايته بما يخصه, وغاياته..؟!,
الإنسان؟! بنفاياته المثقلة بالترف , بفرط سرعته, وجنون رغباته, بإهماله, بعوادم مركباته, بكل بقاياه المهملة..؟!,
أو بعراكه, وصخب ضجيجه, وصراخ غضبه, وتنافسه لأغراضه, واحتكاكه بصغائره..؟!
من فعل بها فأبكاها حين سقطت من عينيها دمعتان؟!
الشارع هذا المحك ما الذي فعل بها..؟
عاد بأسئلته المتراكضة, وتساؤلاته المتلاحقة, وهي بين يديه تمعن في السكوت, وتوغل في الحزن, ..
مسح رأسها بحنوه الذي تعرف, وكل الذي فعلته هي أن أطلقت آهة ألم طويلة,
في امتدادها قالت له التفاصيل كلها عنه, أجل عنه إنسان الشارع,
وعن شارع البشر..!!