د. عثمان عبدالعزيز الربيعة
تثير مناسبة اليوم العالمي للمرأة في مجال العلوم (11 فبراير) تساؤلاً عن دور المرأة عامة في الحياة الاجتماعية، هل تُعطى الفرصة كاملة للقيام بهذا الدور؟ فإن كان الأمر كذلك، فإنَّ البحث عن دورها في مجال العلوم يصبح قضية إدارية وإحصائية. أما إن كانت لا تحصل على حقوقها المؤهلة لها والطبيعية كاملة، فإنَّ دورها في مجال العلوم جزء من دورها في الحياة الاجتماعية وفي المجال التنموي على وجه الخصوص، وينبغي النظر إليه كقضية حقوقية عامة.
لا أحد يجهل أن حقل العلوم بجميع أقسامها - من رياضيات وفيزياء وكيمياء وتقنية ونحوها - هو التربة التي نبتت فيها مقومات الحضارة المادية العصرية من بذور التفكير العقلاني الحر والبحث العلمي وملَكَة الإبداع والابتكار. لكن هذه العناصر الثلاثة وحدها حتى لو توافرت معاً فإنها لا تكفي لظهور النشاط في مجال العلوم - سواء في ذلك الرجال والنساء - إذا لم تكن التربة التي تُبذر فيها خصبة ومغذية؛ ما معناه توافر الحوافز المعنوية من دوافع ذاتية وتشجيع وإيجاد فرص، وتوفير الدعم والإمكانيات المادية واللوجستية وإبعاد العوائق الإدارية واحتواء العوائق الاجتماعية. جميع ما ورد ذكره من عناصر التفكير الحر والبحث وملكة الابتكار والتربة الخصبة التي تغذي تلك العناصر تشكل في مجموعها البيئة الجاذبة والمهيّئة للإنتاج في مجال العلوم. مثل هذه البيئة العلمية قد لا يتوافر أكثرها للمرأة في مجتمعنا، فوطأة الأعراف والعادات والتقاليد ثقيلة لدرجة أن بعضها يؤثر في المجال الديني فما بالك بالمجال العلمي، ويضيّق أمام المرأة أفق حرية الاختيار لما ترى أنه جيد وصالح لها من بين أمرين كلاهما جائز، كما نرى ذلك مثلاً في مسألة كشف الوجه أو تغطيته، وقيادة السيارة أو ترك ذلك للرجل فقط، ودائماً الخشية من فتنة النساء أو الاختلاط هما المشجب الذي يعلق عليه التمسك بعدم الجواز، أو أن الظروف غير مواتية. وعندما يطلب إصدار قانون لمكافحة التحرش تجد من يشوّه فكرة القانون بأنه يشرعن للاختلاط، مع أن الاختلاط أصلاً موجود، ولا يحتاج لشرعنة. الحقيقة هي أن هذا المشجب أو التبرير من صنع الوهم الذي يغطي حقيقة النظرة الدونية للمرأة وعدم الثقة بكفاءتها أو قدرتها على الاختيار الصحيح بين أمور جائزة في الحياة العامة، من حيث ما هو في مصلحتها ولا يضر أو يزعج الآخرين. ونرى مثل هذا أيضاً في أحكام بعض القضاة بفسخ الزواج بحجة عدم كفاءة النسب، حتى لو كانت الزوجة أنجبت أطفالاً واختارت استمرار العشرة مع زوجها.
إزاء هذه النظرة الدونية للمرأة من بعض القوى المؤثرة في المجتمع، هل نتوقع أن تتصدر المرأة مكاناً عليّاً في مجال العلوم ؟ هل يمكننا أن نتصور حدوث تطور عظيم يجلب معه البيئة العلمية التي تمكّن المرأة من ممارسة نشاط منتج في المجال العلمي؟ صحيح أن لدينا نساء برزن في المجال العلمي بأبحاثهن وابتكاراتهن - على سبيل المثال وليس الحصر غادة المطيري وحياة سندي وخولة الكريع - لكنهن انتفعن بالبيئة العلمية المتاحة في الغرب أو في مركز علمي محلي استطاع توفير مثل هذه البيئة بشكل محدود، مما يؤكد قدرة المرأة في مجتمعنا على الإبحار في بحر العلوم إذا توافرت البيئة العلمية الإيجابية.. وربما يقول بعض المتحفظين والمتحفظات - كما قالوا بالفعل حول قيادة السيارة وغيرها - وهل من الأولوية أن نطالب للمرأة بمنزلة رفيعة في مجال العلوم، قبل أن نطالب بحقوقها الشرعية - مثل النفقة والحضانة والميراث وغيرها مما يهضمه الرجال؟ مع أنه لا منطق في هذا القول، لأن تلك الحقوق مقرّرة شرعا ومقنّنة نظاما، والعيب هو في عدم تنفيذ ما أقره الشرع والتزم به النظام بسبب النظرة الدونية السائدة وعقلية الوصاية الذكورية، وسيظل التنفيذ واستحصال المرأة حقوقها عاطلاً، ما دامت تلك النظرة الدونية غير العادلة سائدة - أو على الأصح تتبناها قوىً اجتماعية مؤثرة. الدولة من جهتها عدّلت الكثير من هذه النظرة فنشرت مدارس وكليات البنات وفتحت أبواب التعليم العالي للنساء، وكذلك فرص العمل، وأجازت لهن المشاركة في انتخابات المجالس البلدية ومجالس الغرف التجارية وفي مجلس الشورى ولجانه المختلفة، وأتاحت الفرصة لمن يريد منهن ممارسة المحاماة. لكن مع ذلك لا تزال قيود التقاليد والأحكام المسبقة تنقض ما تغزله الحكومة وتحدّ من حرية حركة المرأة لممارسة دورها الكامل في الحياة الاجتماعية، ومنه دورها في مجال العلوم، وهذه الممارسة تتطلب المشاركة. وإذا طُرح السؤال : وما دخل دور المرأة في مجال العلوم بحرية حركتها أو تغطية وجهها، وهل يمنعها ذلك من أن تبحث وتبتكر وتتفوق في الرياضيات أو الكيمياء مثلاً ؟ فالجواب أن النقاب لا يمنع وقيادة السيارة بواسطة سائق أجنبي لا تمنع، إذا كان ذلك نابعاً من حرية الاختيار والقناعة الشخصية وليس مفروضاً، وليس حائلاً دون المشاركة مع العاملين في نفس النشاط - ذكوراً أو إناثاً - أو دون المشاركة في الدورات والندوات أو البحوث أو في أي نقاش مفتح. وهذا يعيدنا إلى ضرورة توافر البيئة العلمية الجاذبة والمحفزة التي أهم مكوّناتها التفكير الحر والانطلاق الإبداعي واحتواء العوائق الإدارية والاجتماعية.
إن الاعتراف للمرأة بحريتها في اتخاذ القرار الشخصي للاختيار بين أمور لا يكتنفها تحريم شرعي ولا تؤذي الآخرين، يعنى الثقة بها وبقدراتها وفتح الطريق أمام طاقاتها الفكرية لتنطلق وتبدع في مجال العلوم وغيرها من المجالات.