إبراهيم عبدالله العمار
لو ذهبتَ الآن إلى روما فسترى عدداً كبيراً من آثار الرومان، من أعجبها تل تستاتشيو. ليس مبنىً أو آنية، بل تل كبير. غريب! كيف يكون التل أثراً بشرياً؟
الإمبراطورية الرومانية لا تزال تُعتَبَر من أعظم الدول التي حكمت الأرض. نشأت هذه الدولة (وعاصمتها روما) قبل ميلاد عيسى عليه السلام بسبعمئة وخمسين سنة، ولبثت أكثر من ألف سنة، وانتهت قبل ميلاد الرسول عليه الصلاة والسلام بمئة وستين سنة، وتَلَتها الدولة الرومية (وليس الرومانية) وعاصمتها القسطنطينية، وهم الروم الذين ذُكِروا في القرآن وحاربوا الإسلام ويسمون أيضاً البيزنطيين، وقد أتى الروم ذوو اللسان اليوناني بعد ضعف وتفكك دولة أسلافهم الرومان أصحاب اللغة اللاتينية. كانت روما أكبر مدينة في العالم وسكنها أكثر من مليون شخص، عدد هائل آنذاك، والدولة الرومانية حَوَت 90 مليون إنسان من شتى الأديان والأعراق ممن قهرهم الرومان بقوتهم العسكرية الجبارة التي لم يكد التاريخ يعرف لها مثيلاً. لا تزال هي الدولة الوحيدة التي حَكَمت ساحل البحر الأبيض المتوسط بكامله، وهذا الساحل اليوم مكانه أوروبا من إسبانيا غرباً إلى تركيا شرقاً، وشمال أفريقيا من مصر إلى المغرب، بالإضافة للشام وفلسطين. لم توجد دولة في التاريخ حكمت هذه كلها. هكذا كانت روما.
وقد تأثر الأمريكان تأثراً عميقاً بالرومان، واليوم المباني الحكومية في واشنطن تجد أنها تحاكي في تصميمها مباني الرومان حتى في أصغر التفاصيل، ينحتون عليها عبارات وأرقام ومصطلحات رومانية، تشبّهاً وإعجاباً بهم، وانظر مثلاً إلى قبة مبنى كابيتول مقر الكونغرس، والذي حتى لم يسمَّى «مبنى الكونغرس» بل أصر الرئيس توماس جيفرسون على تشبيهه بمعبد جوبيتور كابيتولينوس الروماني حتى في الاسم.
لما ملكت روما أعناق العباد فرضت ضرائب على كل ولايات الدولة الشاسعة، وظهرت عبارة imperium sine fine اللاتينية والتي تعني «إمبراطورية لا نهاية لها»، وتحكي بوضوح طموح الرومان. من تلك الولايات الكثيرة أتت قوافل لا أول لها ولا آخر، تحمل الضرائب على هيئة حبوب وكحول ولكن بالأخص زيت الزيتون في جرار فخارية تقصد العاصمة المهيبة، وهناك في روما استقبل مسؤولو الدولة الضرائب وبعد استخدام زيت الزيتون أخذوا الآنية الفخارية وهشّموها وألقوها في مكب نفايات ضخم، مساحته 20 ألف متر مربع، وارتفاعه اليوم 35 مترا أو ما يقارب مبنى من 10 طوابق، ولاحظ أني قلت «اليوم» لأنه لا زال موجوداً! وهو تل مونتي تستاتشيو، تنظر فترى تلاً أخضر لا غرابة فيه، لكنه مكون من أكثر من 53 مليون آنية فخارية رماها الرومان هناك، وكانوا يحملون من الضرائب 8 مليون لتر زيت كل سنة حتى نقلوا إلى روما من زيت الزيتون ما مجموعه 6 مليارات لتر! وكان مكب نفايات رسمي أشرفت عليه الدولة ورتبت النفايات على هيئة طوابق، وهو أضخم في السابق، وما بقي منه اليوم يشكل 580 ألف متر مكعب من جرات الزيت المكسورة التي أتت بها قوافل تحمل الضرائب الباهظة راغمة الأنف إلى «مركز الكون» كما رأى الرومان.
زالت دولة الرومان كما هي سنة الكون، وبقي من آثارهم الشيء الكثير، ويظل من أعجبها تل تستاتشيو.