د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
تسير في المدن والبلدات القديمة فتحس، برغم صغر المنازل وضيق الأزقة، بنوع من الدفء والطمأنينة دون أن تعرف مع السبب. ومصدر هذه الطمأنينة ربما يكون في بساطة التصاميم وانسجامها، وقلة التفاصيل الصارخة المشتتة للانتباه والمتعبة للبصر والإدراك. وتسير في شوارع مدننا الحديثة فتحس دائماً بنوع من عدم الراحة، وتشتت العين، والتوتر بسبب التفاصيل المنفرة، والتنافر التام بين التصاميم والألوان. فوضى عمرانية ولدها توفر المال وافتقاد الذوق السليم في التصميم.
فرص ذهبية أضاعتها أمانات المدن لخلق مدن وأحياء ذات طابع منسجم يحكي تاريخنا وتراثنا العمراني المحلي الذي تطور بشكل تلقائي بناءً على أهم مفاهيم العمارة الجميلة: البساطة، والانسجام، والسهولة مع الامتناع. المصممون في مدننا خلطوا أساليب المعمار بشكل عشوائي مضحك أحيانًا في مباني مدننا: الحديث مع التراثي، والأندلسي مع الإغريقي، والمغربي مع الغوطي، والإسلامي مع الروماني وهلم جرا. مفردات معمارية تحشر بجانب بعضها البعض الآخر بشكل خادش للعين. أضف لذلك واجهات البنايات التي ترسم حدود شوارعنا فهي كذلك ذات تصاميم بدائية وديكورات خارجية منفرة. تسير في الشوارع وتتنقل بين الأحياء والطرز المعمارية تتوحد في الفوضى فقط، فوضى لا شخصية لها ولا طابع. حتى بناياتنا العالية باستثناء بعضها، شيدت بالحديد والزجاج بشكل غريب يفتقد للانسجام والجمال. فلا أحد على ما يبدو يكترث بموقع المبنى أو البيئة العمرانية المحيطة به. كانت لدينا فرصة تاريخية لبناء أحياء حديثة جميلة منسجمة الطابع واضعناها بترك الحبل على الغارب لكل من هب ودب ليخطط ويبني على مزاجه وكيفه دون مراعاة للذوق العام.
الكثير من مباني الأحياء الحديثة، وأخص المباني التي بنيت وبيعت كوحدات سكنية على شكل شقق تستطيع الفوز بكل أريحية بجواز أقبح البنايات السكنية. هي مجرد مكعبات كبيرة مقسمة بشكل خانق لأكبر عدد من الوحدات يحشر فيها المساكين ليناموا فيها فقط ولا يوجد بها أي مقومات الحياة الأخرى. في معظم الدول توجد لبنايات الشقق مواصفات منها توفر أفنية داخلية جميلة، وملاعب أطفال، وغرف رياضة، وغرف غسيل وغرف أنشطة عامة، هذا بالرغم من توفر الحدائق والشوارع النظيفة في الجوار. لدينا تجد الشقق مصفوفة بجانب بعضها وكأنها كراتين في صندوق شحن كبير، وخارج البناية أرصفة مكسرة، ومياه مجارٍ، أكرمكم الله، تجري كالأنهار الصغيرة لأن من باعها لم يعد مسؤولاً عنها. هذه المباني نتاج أسلوب بناء خاص بمدننا الحديثة أساسه الجشع فقط لا غير. والمحزن أن هذه الكتل الاسمنتية القبيحة ستظل تشوه مدننا ربما للأبد وهي غير قابلة للإزالة.
في هذه العلب المسماة شقق تسكن عوائل بأكملها، عوائل لديها أطفال يحبسون في هذه المكعبات المغلقة لأنه في عالمنا اليوم اختفت الشوارع والميادين التي يمكن أن يلعبوا فيها. ولا بد أن يكون لبيئة مثل هذه أثر نفسي سلبي على ساكنيها وعلى من ينشأون فيها، ولا ابالغ إن قلت بأنها بيئة مسببة للاكتئاب. ومع الأسف فإننا لم نتعلم ممن سبقونا في هذه التجربة، فالتجارب في كثير من المدن الأوروبية أوضحت أن المساكن الشعبية المكتظة بالسكان التي بنتها البلديات، حسب مفاهيم وظيفية فقط، في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي تحولت لبؤر للأمراض النفسية والاجتماعية. ولذا فقد روعي في المباني الشعبية الجديدة الجوانب النفسية والترويحية وخاصة للأطفال الذين يحتاجون مساحات يتحركون فيها ويفرغون طاقتهم بها. وغالباً ما تشاهد عشرات العمائر متراصة طول الشارع دونما أي فراغ بينها. وحوّلت بعض هذه العمائر على الشوارع الرئيسة بكل سهولة لشقق فندقية، ومستوصفات بكل سهولة ويسر مما يدلل أنها بنيت بأسلوب وتصاميم الحجرات الفندقية والمستوصفات لا بتصاميم للسكن العائلي. ويزيد من بشاعة هذه البنايات التي تحول لشقق مفروشة لوحات النيون الضخمة بالألوان الساطعة الساخنة كالأحمر والأرجواني والبنفسجي التي تستخدم عادة للأندية الليلية ودور المساج لا لدور الإقامة المؤقتة. ولا يبدو أن هناك مع الأسف أي مواصفات أو كود لمثل هذه اللوحات. كما أن كثيرًا منها بلا مواقف خارجية مما يجعل الشوارع من حولها في حالة فوضى سير مستديمة. لا اعتقد أننا مقبلون على طفرات عمرانية قريبة بسبب الظروف الاقتصادية الحالية، ولكني أتمنى مراعاة الأمور الجمالية والنفسية والترويحية في مشاريعنا السكنية القادمة وعلى رأسها مشاريع وزارة الإسكان.