وسط المدينة وعوادمها، في خضم ضجيجها..
شوارعُ غاصة، تسرق أوقات قاطنيها..
زحام طال كل شيء، همٌّ بالوصول وهمٌّ بالعودة..
في كل رحلة بسيطة في ربوع المدينة..
في وسط كل هذا القلق..
يُوجد أشخاص مغلوبٌ على أمرهم..
أجبرتهم الظروف ولقمة الحياة على العيش
في كل هذا الزخم.. عدّوا الثواني وخططوا
الخطط بل وحلّموا الأحلامَ في طلب الاستئذان
للخروج من المدينة..
أنا واحد منهم، أهمني ما أهمني وما وجدت
استئذانًا بلا رجعة، لا تزال المدينة
تملك جوارحي ووقتي وجسدي وعمري..
تشد وثاقي، لترسل رجال نظافتها ليكبوا ذاك
الكم من الهم والغم داخل جوفي..
ثم أتى الفرج..
ولو أنه لفترة وجيزة..
وكل زمن أقل من العقد
يكون داخل الوجيزة..
حصلت على الإذن..
في أيام وليالٍ معدودة..
للاستراحة من العمل
ولخلع كابوس المدينة!
بحثت عن أبعدِ مكان هادئ
للارتماء إلى حضنه، والتنعم
بهدوئه، حزمت حقيبتي وشققت
طريقي بأسرع وسيلة..
ما همني أين أذهب!
الأهمُّ أن أذهب!
فما أظن أن هناك مكانًا يكون أسوأ..
إلا ربما ساحة معركة.
وجدت المكان، ويا جمالَ المكان..
غرفة صغيرة لا بها تلفاز ولا مصباح..
تتوسط أحواش الخراف والدجاج..
وبابها مطل على الزروع والنخيل..
يا ويلاه..
كم اشتقت لهواء لا يزاحمني
فيه أحد..
ولأذنين لا تسمع صوت بشر..
ولا حتى صراخ سيارة أو بشر..
عالم لي وحدي..
لا موت فيه ولا ألم..
ولا تنكيد وظلمًا وقهر..
لا أمًا ثكلت..
ولا زوج رُمّل!
ولا دموع سكبت بسبب
عدوان لبشر..
افرش متكأك..
واقعد محلك..
فكفاك..
فحتمًا ستنفجر !
أراقب النجوم الوهاجة
وخيط الفجر الذي حرمت
لقاءه..
أتمم تلاوة السور.. وأتلوها
فإن قرآن الفجر كان مشهودًا..
حتى يحين الوقت فأؤدي صلاتي..
ثم أنتظر صياح الديك حتى أغير
على دجاجه لمائدة إفطاري..
وعلى متكئي أردت زيادة أبهةِ مكاني..
فرفعت صورة تجمعني بأمي وأبي
أمامي.. فلا جمال إلا بهم ولا عيش
إلا معهم..
وبعد أن توقفتْ العصافير عن العزف..
أكملته بنفسي..
لا بصوتي النشاز..
بل بمذياع وضعته في مركبتي لا يلتقط
إلا اليسير من الترددات..
سمعت نغمًا.. وصوتًا يترنم..
كلمات يعرفها الخاطر..
تصل إلى القلوب وتبحث عن المشاعر..
تحيي الصباح والمساء.. وتكمل ما بدأت به
الطيور من عزف وطرب..
.
.
.
مالي أرى بعضًا يحاربون ما قد سكّن أطرافي
وأراح فؤادي ورقق قلبي وقد تسامعت به
البشرية منذ مئات العقود ؟
.
.
.
ثم تلفت حولي لأنظر..
فأتأكد أن لا أحد سيعاتبني ويربد وجهه علي..
وصحت بأعلى صوتي:
قال تعالى{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ }