د. سلطان سعد القحطاني
كانت الحرب العالمية الأولى 1914، بمثابة تعزيز لفكرة الحسين بن على الذي ولد في إسطنبول، إبان نفي أبيه، فأجاد اللغة التركية، على الرغم من أنه عاد إلى مكة وهو لم يبلغ الثالثة من عمره!!، وكانت بينه وبين البريطانيين مراسلات حول هذا الموضوع، بما عرف بـ(مراسلات الحسين ماكماهون) الممثل الأعلى لبريطانيا في القاهرة، وذلك مقابل وعود باستقلال آسيا تحت حكم الأشراف (إمبراطورية عربية) إذا اشترك العرب في الحرب ضد الأتراك، لكن هذه الوعود تبخرت، ونُفذ مشروع ساكيس بيكو، بعد سقوط الإمبراطورية العثمانية 1917، وأول من كشف هذا المشروع الشيوعيون، وتم التقسيم كما خطط له؛ وكانت الثورة العربية، وسقطت الإمبراطورية في مكة أول ما سقطت في الشرق في اليوم التاسع من الشهر السابع 1916، واستولت الدولة الهاشمية على المطبعة والصحف التي كانت تصدر باللغة التركية والعربية معا، مع وجود الضعف اللغوي في نصوصها العربية، كما أشرت في المقال السابق، وورثتها الصحافة الهاشمية، فتحولت صحيفة (حجاز) إلى القبلة، لكنها لم تكن صورة لما كانت عليه الصحافة التركية، بل العكس من ذلك في المضمون، فقد ظهرت على أنقاضها بشكل آخر، ظهرت عربية نهضوية وتأثر كتابها بالنهضويين من الشعراء والكتاب العرب، ميخائيل نعيمة، وبدوي الجبل، وإليا أبي ماضي، وغيرهم، من ناحية، ومن ناحية أخرى بالمهنيين من الصحافيين المصريين الذين حلوا مكان المحررين السابقين وما ذكرته من قبل من المتدربين في مطبعة بولاق، وقامت القبلة منذ بداية الثورة العربية بجهود الشباب الحجازي وغيرهم من أبناء الجزيرة العربية الذين كانوا على استعداد للتفاعل وهضم مبادئ التغيير الذي يرون أنه حتمي في هذه المرحلة التي تغير فيها كل شيء وقسمت أقطارها إلى دول، فماذا سيكون مصير الحجاز من ذلك؟ سؤال يتبادر إلى أذهان تلك الناشيئة، وعليهم الجواب عنه في صورة ورشة عمل تعد لعهد جديد، وكان ميدانهم الصحافة التي كانت جاهزة للانطلاق في ساعة الصفر، ولم يكن أمامهم إلا صحيفة ورثت شكلها من سابقتها (الحجاز) فظهرت القبلة الهاشمية، وكان أول مسئول لها الشيخ، محب الدين الخطيب الذي تولى إدارتها، في بداية الثورة، ثم سلمها إلى آخرين من بعده، وما يهمنا في هذا الفصل من الدراسة ظهورها في الشكل، فكانت صحيفة ناطقة باسم الدولة الهاشمية، وضد الصحف التي تصدر في المدينة المنورة باسم ما تبقى من الإمبراطورية العثمانية قبل سقوطا كلية، ومن تلك الصحف (المدينة المنورة)، وكانت تلك الصحف التي قامت في هذا العهد بجانب ملكيتها للدولة تسعى إلى تحسين الشكل والمضمون في المقالات، ويشارك فيها عدد كبير من الأدباء والمسئولين، وكان الحسين بن علي شريف مكة يكتب فيها تحت اسم مستعار (ابن جلا)، وهذه الاستعارة التي ذكرها الدكتور محمد الصفراني في مقال له حول هذه الصحيفة، يذكرنا بقصيدة الفارس المشهور، سحيم بن وثيل التميمي عندما كان متنكرا أمام الأعداء، وعندما وضع العمامة عن رأسه ووجهه عرفوه وهربوا من أمامه، فالشريف أراد أن يكون سحيم العرب في عصره. وتميزت هذه الصحيفة بالإخراج وتدبيج المقالات، وشارك فيها كبار الكتاب في ذلك الوقت، وسنتحدث عنهم فيما بعد..
أما الصحيفة الثانية التي يجب الالتفات إليها جيدا، فكانت صحيفة (بريد الحجاز) أسسها الشيخ محمد صالح نصيف (1895- 1973) ومجموعة من القوميين العرب، وكانت تصدر وتطبع في جدة، وتولى إدارتها ورئاسة تحريرها، وشارك فيها عدد كبير من الشعراء والأدباء، وسنأتي عليهم في المقال القادم. ونجد أن المدينة المنورة في هذا العهد تعتمد على الصحف التي تأتيها من مكة وجدة بصورة غير منتظمة لسوء وسائل النقل وخوف المصدِّرين من هاتين المدينتين على أنفسهم نظراً لانعدام الأمن واضطراب الأحوال السياسية، وهناك عدد كبير من الصحف لم تعمر طويلاً، بل إن بعضها لم يعاود إصداره الأول، وغيره لم يتعد العددين، ولكل صحيفة ظروفها، المادية والفنية، ونجد أن الخوض فيها يستغرق منا وقتاً طويلاً وتكراراً لما قام به الباحثون من قبل، حيث خصصوا لهذه الصحافة دراسات نقدية وتوثيقية، وتعرضت لها الدراسات التي قامت على الصحافة، في الرواية والقصة القصيرة، مثل دراستنا للرواية في المملكة العربية السعودية، نشأتها وتطورها، ودراسة الدكتور سحمي الهاجري للقصة القصيرة في المملكة، وما تلا هاتين الدراستين من دراسات لاحقة في المجال نفسه، ولم تكن الصحافة في عهد الدولة السعودية في الحجاز (عهد الملك عبدالعزيز) قد جاءت من فراغ، بل إن الطاقة البشرية، وهي -الأساس- كانت جاهزة تنتظر الأوامر بالبدء بصحافة جديدة على منوال الصحافة التي ورثتها، فطورت منها وحدثت بما يلائم العصر والظروف في ميدان الحداثة الوافدة، من وسائل نقل ومطابع وغيرها.