محمد عبد الرزاق القشعمي
على مدى 625 صفحة هي مجموع ما ترويه رواية (من أغوى شريفة؟) للصديق عبدالله محمد العبدالمحسن، والتي صدرت مؤخراً من نادي تبوك الأدبي، لم أمل من قراءتها فقد استمتعت بتتبع مجرياتها بين بطلي الرواية ناصر القادمة عائلته من نجد والذي تعلم في أمريكا وتخصص في صيانة المنشآت البحرية وأتقن الغوص في البحار، وشريفة التي قدم أهلها من البحرين لتستقر بالخبر في منازل بدائية – عشش وصنادق – بين تلال الرمل على شاطئ البحر، والتي شاركهم السكن بها عمال شركة (أرامكو) الأوائل عند بدايات التنقيب عن النفط.
بدأت الرواية بخطوبة ناصر لشريفة، وبداية الاستعداد للزواج ومتطلباته من شراء ملابس العرس، وكره شريفة الذهاب إلى السوق بسبب تعرضها في صغرها لمحاولة إسماعيل صاحب الدكان المجاور لمنزلهم، عند ذهابها لإحضار زجاجات المرطبات لأهلها بعد تناولهم طعام الغداء، وهي تبحث عن القناني الباردة داخل الثلاجة الخشبية ولعدم وجود زبائن آخرين جعل إسماعيل يلتصق بها من الخلف وهو يدفعها إلى الثلاجة مما عرضها للتقزز والخوف والامتناع عن الخروج للعب مع الأولاد كما تعودت. وحتى السوق وكان وقتها سوق السويكت هو الوحيد الذي تعرض به المستلزمات المطلوبة للنساء بشكل خاص، مما حدى بأختها فاطمة أن تشجعها وتستحثها بل وتدفعها للذهاب معها لاختيار ما تحتاجه للزواج، وهكذا استعادت ما افتقدته وبدأت بالتردد على السوق بعد زواجها، إذ تغيرت البلدة أو القرية وأصبحت مدينة وشيدت بها المنازل الحديثة وغزاها التطور وسكنها كبار عمال الشركة وكبار التجار وبدأ شارع خالد بحوانيته الحديثة ينتزع الشهرة من شارع السويكت، ويعرض أحدث الموديلات من ملابس ومستلزمات منزلية.
كنت أقرأ الرواية مشدوداً بقدرة الراوي على مزج تاريخ المدينة بمجريات بطلي الرواية، وأنا أتذكر رواية عبدالرحمن منيف (سيرة مدينة) وهو يدمج سيرته بسيرة مدينة عمان، وكذا تذكر الكاتب التركي باموك وهو يروي سيرة (إسطنبول) وغيرها.
استعاد العبدالمحسن تاريخ ومكونات المدينة وبداياتها بالتفصيل وسوف أكتفي بما يتعلق بالبحر وبالجانب الثقافي، فهو يشير إلى أستاذنا سعد البواردي الذي قدم قبل نحو سبعين عاماً من قلب الجزيرة ليعمل بائعاً لقطع غيار السيارات وتحول فيما بعد إلى التنوير ليصدر مجلة (الإشعاع) كبديل (للفجر الجديد) التي احتجبت بعيد صدورها منتصف عام 1374هـ/ 1954م، وبعدها يذكر جريدة (الخليج العربي) ودورها في مهاجمة الشركة ومطالبتها بمساوات العمال السعوديين بغيرهم مما أجبر الشركة على تحسين أحوالهم وتأمين السكن والتعليم والمواصلات، وأشار إلى بدايات تأسيس الأندية الرياضية حتى وجود ملعب يعقوب الدوسري كملعب نظامي بدائي بمدرجاته الخشبية المتواضعة قبل نصف قرن.. وتطرق إلى تحسين الشوارع وتأسيس المكتبات، ودور تلفزيون أرامكو، والمذيع عيسى الجودر وهو يصف رياضة المصارعة التي تعرض إلى جانب الأفلام العربية والأجنبية.
هذه الإسقاطات والملامح التي يضمنها الرواية كجزء متمم لها لم تأت الأمن جهود مضنية بذلها الراوي سواء من مراجع مكتوبة أو مروية، أذكر منها مرافقته للأستاذ سعد البواردي عند دعوته لحضور حفل إقامته الشركة قبل نحو سبع سنوات بمناسبة مرور 50 عاماً على صدور مجلة (قافلة الزيت)، أذكر أن العبد المحسن أخذنا بجولة خاطفة للخبر القديمة، وأخذ يستفسر من البواردي عن حياته بها قبل ستين عاماً وعن عمله لدى القصيبي والعيسى وغيرهم، وعن تأسيسه لمجلة الإشعاع وأهم ملامح البلدة في ذلك الوقت، تسارعت الأيام بدأت شريفة تدمن التسوق وارتياد السوق بشكل دائم على حساب زوجها وبيتها وأبنائها، وجاء عبدالعزيز وبعده جواهر التي فضلت الدراسة بجامعة البحرين «.. الآن المناهج كالتربية، لكي تعطي ثماراً جيدة وطيبة تحتاج إلى حرث مستمر، وتخصيب مستمر بإضافة عناصر جديدة.. » ص 495.
بدأت تهتم بالنشاط الاجتماعي والقراءة والرياضة وتشارك مجموعة من زملائها «.. في مناهضة ردم شواطئ الخليج التي تهدد الحياة الفطرية وتؤدي إلى الإخلال بالتوازن البيئي» فبدأت تنتقد وترفض مرافقة أمها في الذهاب إلى السوق التي أدمنت عليه.
وأخذت تناقش زميلاتها في مواصفات الزوج القادم، وفضلت أن يكون ابن قبيلة وغنياً حفاظاً على تكافؤ النسب حتى لو كان بعمر والدها فهو أفضل من زواج المسيار. وإلى جانب ذلك انشغلت جواهر مع مجموعة من الفتيات بجمعية حماية البيئة لتنظيف كورنيش الخبر بعد أن يتركه المتنزهون ليلاً مليئاً بالنفايات وبقايا الأكل وأعقاب السجائر وعلب المشروبات الغازية، «.. وفكرت في إقامة معرض للصور التي التقطتها للزبالة الموزعة على الكورنيش يوم الجمعة ليطلع عليها رواد البحر ليكون حافزاً لهم لتجنب هذه العادة السيئة، ولكن خالتها حصة قالت لابد من إذن من الجهات الرسمية، فقالت أجل ترك الأوساخ بدون موافقة رسمية» ص 508.
أما ابنتهم الأخرى سناء فقد انزوت في عالمها الخاص مع زميلاتها، فلا تشاركهن، فدائماً مشغولة بوسائل التواصل الحديثة ومتابعة الصرعات الغربية، ص 514.
بعد أن بردت العلاقة بين الزوجين وتقاعد ناصر من العمل وشريفة «.. ما زالت تواصل رحلاتها شبه اليومية للسوق، قال لها: متى بتتركي السوق عنك؟ قالت: ما بأتركها ولو على كرسي متحرك.. » ص 579، وعندما أدركت مدى غضبه، قالت إن مشترياتها من أجله، وأنها تتجمل له..
ومع ذلك بدأ الملل والعلاقة بين الحبيبين أصيبت بالبرود، فأصبح ناصر قليل الكلام أو التعليق على ما يصادفهم، كل ذلك من أجل أن تتنبه له وتقلل من ترددها على السوق.
عبدالعزيز ابنهم الوحيد قُبض عليه وأُودع السجن بسبب مشاركته في التجمهر وتحطيم واجهات بعض المطاعم بمناسبة اليوم الوطني، وابنتهم جواهر التي رفضت خطيبها لأنه لا يمشي حسب الموضة ويشتري أفضل الماركات. فتمر علاقته بابنته بالفتور جراء فسخ الخطوبة، وهكذا أصبحوا يعتمدون على مطاعم الوجبات السريعة فأصبح يأكل على مضض، ويفكر بالأبحار والعيش بمفرده في عرض البحر بأمل اقتناء يخت يجوب به البحار ويفكر في ما عرضته له الشغالة الأندونيسية (سرواتي) التي قالت لهم: «تعالوا إندونيسيا، هناك شجر كثير، بحر كبير».
لا أنسى أن هذا العمل الروائي الجميل قد أهداه لزوجته الفاضلة الدكتورة ناديا الهواشم التي خيرها بين البحر والسوق فاختارت البحر، لأنها تحب التسوق قليلاً، فهي من القلة بين النساء زمن حمى الاستهلاك.
كما لا أنسى أن أشكر نادي تبوك الأدبي على حسن اختياره ونشره لهذا العمل الذي يرقى إلى المنافسة على جائزة البوكر للرواية العربية.