د. صالح بن سعد اللحيدان
ثبت عن طريق السبر النظري والتحليل التاريخي حسب الأسانيد المثبتة لدي عن العرب قبل الإسلام، أنّ جلهم كان لا يختلطون بغيرهم ممن لا يتكلم بلغتهم، وهم يعتزون بهذا على وتيرة واحدة وسبيل دائم مقيم.
وقد كان هذا دون ريب من أسباب قوة اللغة ومتانتها، من حيث اللفظ ومن حيث المعنى بسواء وسواء، حتى لعلى غيرهم ممن تعلم اللغة بالمجاورة أو تعلمها بالمصاحبة لعلهم كانوا لا يفهمون بعض معاني اللغة، فكانوا يستفسرون عن هذا أو ينشدون طلب أساسيات المعاني ومرامي الإشارات إلى المراد. وهذا قد جعل العرب أمه قوية في لغتها وآدابها، مستقلة في سيرها صوب مدارك رقي اللغة والتشبث بها.
وقد كان من سياسة النسق اللغوي اللافت للنظر، نظر كبار العلماء الذين يبحثون الموهبة اللغوية لدى العرب، أن اللهجة اللغوية كانت تختلف من قوم إلى قوم آخرين، فهذيل مثلاً لها لهجة وبلي لها لهجة وقريش لها لهجة وهكذا، لكن كل ذلك كان يصب في دائرة اللغة الأم لا تعدوها إلى غيرها، وهذا ما جعل اللغة ذات بُعد جليل موهوب، ثم حصل ما لم يكن بالحسبان أن يكون لكنه كان جاء الإسلام حال قوة اللغة وقدرتها وموهبتها وتنوع أسباب، هذا كله مما يدرك على الأقل بالسليقة، وإن لم يكن المرء عالماً باللغة.
فحينما جاء الإسلام وحرر العقل وجعل القلب تبعاً له، وجعل العاطفة تسير بركابه، برزت اللغة وتحركت وتوسعت في مضامين وإشارات لم يكن لها ذلك لولا ما جاء من محرك لها ومضيف إليها، مما جعلها تتجه صوب مخاطبة العقول الحرة المتوسعة نحو آفاق سامقة من الدلالات التي احتاجها الناس عبر القرون، ويعاد في هذا ( عمدة القارئ للإمام العيني ) (والكتاب ) للإمام سيبويه و ( الخصائص ) للإمام ابن جني ( البحر المحيط ) لابن حيان التوحيدي، وابن هشام في شرحه لألفية ابن مالك، وابن حجر في شرحه على البخاري.
وسوف أسير وفق هذا المعجم شيئاً فشياً لإيراد مسائل تهم العلماء والباحثين وذوي الاهتمام اللغوي حسب ما توصلت إليه:
1 - حينما جاء الإسلام نشد الناس وانتشر المسلمون والعرب، جزء منهم انتشروا في أصقاع الأرض، توسعت الصلة بينهم وبين أمم أخرى، وحينما تم اختلاط المسلمين بغيرهم انتشرت اللغة ونطق بها آخرون.
2 - حافظت اللغة على مكانتها وقوّتها ودورها ردحاً من الزمن طويل واستفاد خلق لا يحصى منها في معرفة معان وأمور لم يكونوا ليقفوا عليها لولا اللغة.
3 - ضبط كثير من الحكام البارزين مذ عام 40 هـ حتى سنة 250 هـ، ضبطوا اللغة وتابعوا أمرها لئلا يفسد الذوق اللساني بالنطق بها وقد تم هذا حتى سنة 400 هـ.
4 - ظهرت بوادر ليست حسنة لكنها حسب متابعتي وتحليلي التسلسلي لآداب اللغة وعلومها مما صح من الآثار في الكتب الستة عند علماء الحديث، ظهرت بوادر من خلال المولدين، أولئك الذين لم يقدروا على ضبط اللغة، من خلال النطق بها لتعثر الألسن وصعوبة نطق كثير من الحروف.
5 - ظهر بعد حين أضنه ليس ببعيد ظهر اللحن تدريجياً حتى خشي على اللغة أن تندرس وتمرض ثم يكون الطغيان بسبب هذا اللحن.
أقول ومما ورد في هذا من اللحن وهو مثال يدل على غيرة، أن أمير البصرة أبو موسى الأشعري رضي الله عنه، كتب كاتبه إلى عمر بالمدينة ما يلي ( من أبو موسى الأشعري إلى أمير المؤمنين الخ ..)
فلما قرأه عمر بعث إليه ما فحواه ( أن قنع كتابك سوطاً ) يريد عمر رضي الله عنه هنا أن أضرب كتابك سوطاً، وهذه كناية عن التعزير لحصول اللحن الشديد، لأن الأصل أي يقول (( من أبي موسى )) لا (( أبو موسى )).
6 - من هذا تولد خلال تتالي العهود اللاحقة شدة التنبه لمثل هذا، فسار الخلفاء و الحكام فيما بعد على نهج عمر، وشددوا على العلماء و الكتّاب والشعراء ألا يقعوا في اللحن أن يتقوا الزلل بمراجعة ما يكتبون.
7 - تولّد من جراء ذلك النحو علم قائم بذاته لضبط دلالات اللغة وحسن النسق لسياستها ليكون النحو قائماً على سوقه، ليتم فهم الجمل والتراكيب من خلال النحو بياناً وإعراباً،
وما أحسن ( المثل السائر لابن الأثير فهو كتاب جدير بالقراءة مع التدبر، ففيه روايات جيدة ونكات لغوية غالبها مفيد في بابه ).
وسوف إن شاء الله تعالى أضيف المزيد مما يهم هذا الباب.