ياسر حجازي
(أ)
لم تتوقّف العولمة عند النظام العالمي الجديد الذي تصوّره -سياسيّاً- جورج بوش الأب بعد انهيار الاتحاد السوفياتي/القطب الآخر، أو فكريّاً وثقافيّاً كما تصوّره فرانسيس فوكوياما في «خرافة» كتابه: (نهاية التاريخ والإنسان الأخير)، على أنّه شكلٌ ومضمونٌ (أحاديّ ونهائيّ) يعمل لمصلحة «قُطبٍ واحدٍ» على حساب دول العالم؛ بلْ، تكاثرت العولمة وأفرزت أشكالاً ومضامين متعدّدة للتعبير عنها كمصطلح واقعي مُعاش، في تعدّديّة تكامليّة واختلافيّة بلغت حدّ التنافر والتوافق، وذلك تحت تأثير غياب جدليّة الصراع المادي بين مركزين وقطبين (كان) يديران العالم، ممَّا فتح المجال للتعدّديّة العالميّة أو «المحو القطبي» المتزامن مع تسارع تطوّر وسائل الاتصال، تأسيساً لحياة إنسانيّة يتفاعل فيها شعوب العالم عبر قضاياهم يوميّاً، وعلى درجة من التأثير لم تكن سابقاً، وبحيث إنّ العولمة تخدم المركز، وفي الوقت نفسه، تسحب المركز عن المركز؛ وهو ما يُسمّى سياسيّا «اللا-قطبيّة» أو حالة «تصفير القطب/زيرو»؛ ونتيجةً، ظهرَ الإنكفاء الأمريكي الاضطراري في فترة رئاسة أوباما كتعبير سياسيّ عمّا يسمّيه البعض «تراجع السياسات الخارجيّة لخدمة المصالح الداخلية»، وعجّل في هذا التراجع سببان متعاقبان: إفرازات العولمة المعاكسة لمصلحة المركز، وكلفة القطبيّة الواحدة وذروتها يتمثل في ثقل الأزمة الماليّة الاقتصاديّة، التي أثبتت للأمريكين: أن التعافي الاقتصادي يستوجب الانكفاء السياسي والتعاون الاقتصادي التجاري مع دول العالم، كما أثبتت الأزمة الاقتصاديّة للعالم: أنّ المركز لم يعد قادراً على القيام بدور المركز، وأنّ الصين ليست مستعدّة حالياً للقيام بالدور القطبي البديل، بل، حرصت على مساندة أمريكا، بوصفها الدائن الأكبر والمالك لسندات الدين الأمريكي، وبالتالي فإنّ انهيار الاقتصادي الأمريكي سوف يكون كارثة على الاقتصاد الصيني أيضاً؛ وفي هذا تفسير لغياب القطبيّة.
(ب)
تحت هذا التقديم المضغوط لتحوّل القطبيّة إلى محوها، إلى التعدّديّة العالميّة، يمكن أن نربط هذا التحوّل كمسبّب لوجود بيئة حاضنة ومستوعبة لخطاب شعبويّ يناهض الخطاب العلماني والليبرالي الأمريكي، ولا يقوم على مفاهيم مستقلّة وتابعه له، بقدر ما هو خطاب «مُشتّت وعاطفي وانفعالي» هو انعكاس لفوضى أمريكا تتبلور أكثر فأكثر منذ انهيار السوفيات، ويتقاطع في كثير من مفرداته وتصوّراته مع خطابات يمينيّة ويساريّة عدّة، وقد يذهب البعض في مقارنته بخطاب أدولف هتلر الشعبويّ، وإن كان الفارق كبيراً بين حالة الشعبين الموجّه لهم الخطاب وحقوقهم وحريّاتهم في التعبير والدافع عن وجودهم: بين شعبٍ يرتبط بعرقٍ وثقافة متشبّعة بالإثنيّة ولم تكتمل فيه القوانين السياسيّة التي تغذّي سلطته كفرد يملك سلطة جزئيّة ضمن سلطة العموم، ذلك أنّ فترة القوميّات حملت في تكوينها ما يطمس الفرد على حسب (الجماعة/القوم/العرق/الدين)، وبين شعبٍ تكوّن دون رابط إثني وديني، وتأصّلت فيه قوانين ومفاهيم المواطنة المدنيّة التعدّديّة وتحصّنت قوّته الفرديّة وحريّته السياسيّة واختلافات أخرى؛ وما يهمّنا هنا «سؤال الظاهرة» بوصف الرئيس الأمريكي ترامب «ظاهرة سياسيّة»، لفتت إليها أنظار دول العالم وأعادت حساباتهم لسياساته الداخلية والخارجيّة ومدى تأثيرها في المدى القصير والبعيد، وحرّكت العالم شعبيّاً وسياسيّاً لمواجهة سريعة لقراراته الأولى (العجولة)، في خلط واضح لمعايير المؤسّسة السياسية الأمريكيّة والقوالب الدبلوماسيّة والتزامات المواثيق والاتفاقيات التجارية؛ والمفارقة في هذه الظاهرة خلطها لمفاهيم الخطابات السياسيّة واتجاهاتها بين (يمين، يسار، وسط، محافظة، ليبرالية، أصولية) في خلطٍ واضح -قد صدر عن جهة غوغائيّة أو إعلام بروبوجندوي- لكنه لا يصدر عن مركزيّة الرئاسة الأمريكيّة؛ بحيث يمكن لليمين الأوروبي أن يراه نصيراً أو عدوّاً في آن معاً، فترامب «رفض أو تجاهل» مقابلة زعيمة اليمين الفرنسي ماري لوبان في زيارتها نيويورك ونزولها في برج ترامب، وكذا يمكن لليسار والوسط والآخرين أن يجدوا في خطابه الشعبوي ومناصرته لقضايا العمّال والعاطلين عن العمل وقراراته غير الاستراتيجيّة نصيراً أو عدوّاً في آن معاً؛ لكنّ العالم، وأوروبا خصوصاً، إذ تتحمّل صداقة أمريكا وتحالفها، لكنها لا تقدر على حملان نتائج عداء أمريكا، وتغيير مفاهيم إنسانيّة دفع الأوروبيون أكلافهاأكثر من غيرهم من شعوب العالم.
(ج)
هل ترامب ظاهرة سياسيّة تميل أكثر إلى «مراهقة سياسيّة متأخّرة» دون رؤية وأجندة، لرجل عاش عمره كلّه مشغولاً بالتجارة ورؤوس أموالها وتبعات صناعة رأس المال، لرجل لا يُخفي نظرته الدونيّة للسياسيين وعالمهم النفعي والبراجماتي وأساليبهم وتحالفاتهم؟ وإلى أيّ مدى يختلف عالم المال عن عالم السياسة في حساباته؟
هل هي ظاهرة تحمل مشروعاً قد يفتح شرخاً كبيراً في اتحاد الولايات؟ وينمي دعوات انفصاليّة كامنة وليست مستحدثة، كالدعوات الانفصاليّة المتكرّرة لنخب ولاية كاليفورنيا، كبرى الولايات.
ما تفصح عنه سياسات ترامب حتى الآن: أنها غير استراتيجيّة ولا تحمل أجندة سياسيّة، وأنّها مقيّدة وتحت حصار قضائي وبرلماني، على الرغم من تضخيم الإعلام لمخاطرها؛ كما أنّ أمريكا ليست دولة شخص، يتقمّص النظام، هي دولة عموم وسلطات منفصلة وموزّعة القوّة، وهي أقرب إلى النظام البرلمانيّ، لطالما صلاحيات الكونجرس أعلى من صلاحيات الرئيس، رغم ما ألفناه عن تنصيف النظام الأمريكي «بنظام رئاسي»، وفي الطرف الآخر من المعادلة، فإنّ الشعب الأمريكي يعلم جيّداً قوّة حريّته في كونها سلطة فاعلة ورقماً صعباً في السياسة الداخلية.
وعلى صعيد إقليمي، ما دور الشرق الأوسط في مواجهة هذه الظاهرة؟ كيف سوف يتعامل مع تناقضاتها ومفارقاتها وخلوها من أجندة؟ ألا يستوجب بالحدّ الأدنى: أن يُمارس في حقّ نفسه، ما ينتقده في خطاب ترامب الشعبوي وما يرشح عنه من شبهات عنصرية؟! وتلك مقالة أخرى.