لم يكن يوهان فولفجانغ غوتة شخصًا عاديًّا من عامة أهل فرانكفورت، وإنما كان من أشرافها ونبلائها الخلّص، وهو حفيد عمدتها الميسور. هكذا كان يفتخر دومًا. وكانت فرانكفورت ذاك الوقت المدينة المتدينة التي قلما ترى في سكانها من يتخذ أساليب الشيطان مسلكًا عامًّا؛ لذلك نجد البُعد الديني عند جوتة عنصرًا أساسيًّا في مؤلفاته الشعرية والمسرحية والروائية، وقبل ذلك هو بعد روحي في سيرته الذاتية التي امتدت حتى العقد الثامن ونيف من عمره. فاعتناقه اللوثرية التي نسميها البروتستانتية، وهي تعتبر الحرية أو الفسحة في المذهب المسيحي أكثر من الكاثوليكية المتشددة، التي تعتبر الإعجاب بالمذاهب الأخرى نوعًا من الهرطقة المرفوضة التي يجب أن يعاقب عليها صاحبها.. فتلك أعطته مساحة كبيرة للتعرف على الدين الإسلامي ودراسته دراسة متأنية ودقيقة، والإبحار فيه دون غرق على حد قول البعض! ولعل صديقه المقرب وأستاذه هيردر له الفضل الكبير في الاطلاع على اللغات والآداب الشرقية والتعمق فيها حتى غدا أستاذًا ومترجمًا لها. ومما لفت نظره الدين الإسلامي واللغة العربية والنصوص القرآنية الكريمة.. وقد ندم على تأخره في اكتشافه لهذه المعجزة الإلهية وسيرة الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - كما يقول! فالدراسات الشرقية - ومنها الإسلام - أخذت حيزًا من دراسات المستشرقين في ذاك القرن، وأولوا الأدب العربي اهتمامًا بالغًا وعناية مهما كان الغرض من ذلك، وخصوصًا في المخطوطات وتحقيقها؛ فكانت مصدرًا ملهمًا لكثير من الباحثين والأدباء والنقاد والشعراء الذين أكبوا على تلك الآداب دراسة وبحثًا وكتابة! ولا شك أن جوتة في لغته الألمانية وآدابها لا يشق له غبار، وهو مبدع أيما إبداع كما يقول الأستاذ محمود شاكر - يرحمه الله - لذلك حرص على النبوغ في اللغات والآداب الأخرى، ودمج الآداب الشرقية - خاصة الأدب العربي - في رواياته وشعره، مع قدرة في تحليل النصوص ونقدها. كانت نظرة جوتة للآداب أنها وسيلة للإصلاح وإرساء السلام بين الشعوب، ولاسيما ما تعانيه أوروبا من حروب طاحنة في مطلع القرن التاسع عشر، ومنها حرب السنين السبع، وبداية الثورات والانقلابات العسكرية! حتى قال عنه نابليون بونابرت في تحية له: (ها هو ذا الرجل!)، إشارة في عمق المعنى الرجولي! فكانت فكرة اللجوء بتطويع النص الأدبي باستخدام الشخصيات والرموز والمعاني الدينية، وإن كانت تختلف أيديولوجيًّا وعقائيًّا، مطلبًا للتسامح وعدم إقصاء الآخر عندما تكون القراءة واضحة ومقنعة حين ينبذ التعصب! فالديمقراطية الأدبية يجب ألا تخلط بدكتاتورية السياسة ومعيار التشدد الديني وفي سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - الضالة التي وجدها جوتة؛ فأخرجها في قالب يصل إلى عقول الأوروبيين كمثل يجب أن يحتذى! لذلك عُدَّ ملحدًا أحيانًا لكونه لا يتردد على الكنيسة ولا يصلي، وإن امتدح سبينوزا يومًا وتبعه نوعًا ما! ولا شك أن جوتة الذي عانى من الاحتلال الفرنسي يعي ذلك حين لقيت مؤلفاته رواجًا كبيرًا في ألمانيا وغيرها من الأقطار الأوروبية، وطارت شهرته في الآفاق، على أن هناك من أراد أن يشوه صورته في نظر العرب بأن جعله يهمش ويتجاوز الأدب العربي ويهمله بجانب اهتمامه بالآداب الشرقية الأخرى كالفارسية والهندية والصينية، ولكن ذلك لم ينجح إذا أمعنا النظر جيدًا في إنتاج جوتة وإعجابه الكبير باللغة والأدب العربي حتى بلغ به الاقتباس والتضمين في كثير من شعره ورواياته من ألفاظ القرآن الكريم! وترجمته لكثير من أشعار الشعراء الجاهليين، ومنها قصيدة (إن بالشعب الذي دون سلع) لتأبط شرًّا أو لابن أخته! التي أثارت جدلاً كبيرًا في الأوساط الأدبية بسبب ترجمة جوتة لها إلى الألمانية؛ فأضفى إليها بهاء وجمالاً كما يقول الأستاذ يحيى حقي - يرحمه الله - بترتيبه للأبيات ترتيبًا جديدًا لم تعهده القصيدة؛ ما حدا بالبعض إلى ترجمتها إلى العربية من ترجمتها الألمانية! ولربما كتابه الكبير (الديوان الشرقي) يمثل ذروة التأثر بالمعلقات والشعر العربي، وخصوصًا في أبيات النسيب وفراق الأحبة؛ فإنها بلغت من نفس جوتة حدًّا جعلته يعترف بأسبقية الشعر العربي إلى أعماق الشعور والإحساس لديه؛ ففي قصيدة (هجرة) و(أنى لك هذا) يتجلى فيهما الاقتباس اللفظي والمعنوي الواضح من شعر المعلقات. مهما يكن من القول عن إعجاب جوتة بالإسلام والشعر العربي واختلافهم في ذلك إلا أننا يكفينا قوله (لا أكره أن يقال عني مسلم).
- زياد السبيت