ما زال الثلج يتراكم خارجًا، وجدران الغرفة الصغيرة تزداد برودة.. يجتمع الصغار حول موقدٍ صغير، تنبثق منه شراراتٌ ضعيفة، يفركون أكفّهم الصغيرة، كما لو أنهم يحرّضون الشعلة على أن تصير أكبر لتدفئ بقية أجسادهم المرتعشة..!
تدور في الغرفة الضيقة كلبُؤةٍ جريحة في قفصٍ مقفل.. لا شيء آخر تغطي به صغارها، والحطب على وشك أن ينفد، وليل الشتاء القارس الطويل في أوله.. تحسست معطفَها البالي، ودون أن تفكر نزعته عن كتفيها المرتعشتين، وقرّبت صغارها من بعضهم ووضعته عليهم؛ كي يستمدوا منه بعض الحرارة..
لم يكونوا يتحدثون.. كانوا ينظرون فقط لوميض الفحم الذي يتهيأ ليخمُد.. وتلاحق نظراتُهم طيفَ أمهم التي تزرع خطواتِها المرتبكةَ في أرضية الغرفة الصغيرة.. تبحث عن أي شيء يصلح طُعمًا للنار.. إلى الآن كانت قد أطعمتْها كلَّ قطعة خشبٍ في متناولها، ولم يتبقَ إلا كتبُ الصغار، وصورٌ قديمة كانت كلَّ إرثها من الحياة..
تحدث الصغار في وقتٍ واحد:
- أماه.. احكي لنا حكاية.
ارتسمت ابتسامةٌ صغيرة على وجهها الشاحب، واقتربت من الموقد الصغير، وجلست أمامهم وهي تضع كومة الصور بين يديها..
- سأقصّ عليكم قصة دافئة!
- لا نريد قصصًا مرعبة.. صوت البرد خارجًا يخيفنا..
- بل سأحكي لكم قصصًا تحبونها.. سأحدثكم عن فصل الصيف الذي مضى!
- عن الشمس؟
- وعن الحقول.. والحصاد..
أخذت مجموعةً من الصور، ووضعتها بحرص على الجمر الذي يُحتضر على الموقد..
- هل تذكرون كيف كنا نخرج لنساعد والدكم في الحصاد؟
كنا نتسابق مَن يصل أولاً إلى الحقل، نحمل له وجبة فَطور متأخر، وعلى طول الطريق كنتم تلاحقون فراشاتٍ ملونة، وكانت الشمس مثل هذا الموقد تشعّ حرارة، وتغرقنا بالعرق..!
كانت النار قد بدأت تشتعل في الصور، وهجُها يشبه وهَج عيون الصغار.. متعةً بالدفء؛ الذي كان يؤجج مخاوفَها زوالُه المحتوم..
تضع مجموعةً أخرى من الصور وتهمس لهم:
- تذكّروا كلَّ تفاصيل ذلك اليوم، واستمتعوا بلهيب الشمس التي كانت ترافقنا ونحن نقضي أجمل لحظاتنا في الحقل..
- هل سيعود أبي؟
- سنلتحق به قريبًا، سنذهب إليه.. هناك حيث لن نشعر بالبرد ولا بالجوع!
- متى؟
- سننام الآن.. ومع قليلٍ من الحظ نكون هناك غدًا!
تمدّدَ الصغار بجانب الموقد، فيما ظلّت تُلقم النارَ الشحيحةَ ما تبقى من صور..
بهدوءٍ كما الملائك نام الصغار، وكانت كتبهم نارًا تُدفئ الحلم الذي بدأ يكبر بينهم..
في الصبح حتمًا ستكون اللوحة أكثرَ وضوحًا.. ثلاثةُ أجساد صغيرة، تلتفُّ في أسمالٍ بالية، وجسدٌ بنى عليه البرد طبقةً سميكة من الجليد، وبقايا رمادٍ يحكي قصة بؤسٍ؛ لا يشعر به سوى الذين عبروا إلى عالم الخلود..!
- عبدالله بن سُنكر
@binsunkr