تخرج وسام من الكلية العسكرية برتبة ضابط، والتحق بالجيش، كانت الخياطة تخصصه وكان بارعا في خياطة الملابس وتوسيعها وتضييقها وقصها وتدبيسها، وكان مقدرا من زبائنه، خصوصا ممن آتاهم الله بسطة في الطول والعرض، أصبح خانه مشهورا ومعروفا عند الجميع، ولأنه ضابط طموح أتته فرصة ذهبية ليصبح رئيسا لهيئة الأركان في ذلك الجيش، استلم المنصب ولم يتخل عن الخياطة كونها رافدا مهما يردف دخله ويزيد من رزقه.
بدأ بتشكيل فريقه الذي سيعينه على هذه المهمة، خصوصا أن الهيكل التنظيمي لرئاسة الأركان كان جاهزا وفيه الكثير من أسماء الضباط القديمة والجديدة التي ستساعده على إنجاز مهامه كجنرال طموح ومحترم.
بدأ بتفحص الموجودين حوله، أيهم يستحق أن يكون مساعده لينعم عليه برتبة المارشلية وعصاها الغليظة وما يصاحبها من امتيازات وعطايا وهبات؟ وجد ضالته في ضابط مريح ومطيع يدعى جبله، كان أقصى طموحاته أن يصبح مساعدا ومنتهى أمله أن يظهر على صورة غلاف لمجلة يكون بصحبة الجنرال وبقية هيئة الأركان.
كان جبلة دهانا، يتعامل مع الجدران والأسطح الخارجية للأجسام بمهارة عالية، فيعيد ترميمها وصبغها ومعجنتها بالدهانات، كان تخصصه منصبا على النواحي الشكلية والأذواق والألوان، أما الخبرات العسكرية والصفات الإيجابية الأخرى فلم تكن متوافرة فيه، يؤكد ذلك سمته وسيماه.
بعد اختيار مساعده بدأ رئيس هيئة الأركان -وسام - بممارسة صلاحياته وبدأ يبحث عن بؤر الخلل والتقصير في منظومته، في الوقت ذاته كان مساعده يقضي وقتا ليس باليسير في مصنع الأصباغ الذي يوفر الدهانات، كان هذا المصنع يمثل عاملوه البروليتاريا في منظومة ذلك النظام المنغلق، وكانوا وسيظلون يعتبرون مواطنين من الدرجة الثانية بحكم النظام والدستور.
كان ذلك المصنع كالعادة يعيش تناقضات حادة في كل شيء، في الرؤئ والأفكار، في التوجهات والأعمار، وهذا ما جعله دائما الهامش الأوحد لكل قادة الجيش ليمارسوا فيه صلاحياتهم وتجاربهم ونزواتهم التنظيمية، بل حتى تجاهلهم للمكان وعماله فعدالة التنمية -مثلا- كانت تقتضي توزيعا عادلا للاهتمامات إلا أن هذا المصنع بقي وسيبقى الحلقة الأضعف والمكان الأبعد عن عيون وقلوب قادة الجيش وكبار ضباطه!
ولأن المساعد جبلة كان شكليا في عمله سطحيا في طريقة تفكيره، فقد أصبح صيدا سهلا لجبران أحد عمال المصنع القديمين، فاحتواه بطرقه غير النظامية المعهودة عندما يتعامل مع الضباط الكبار، مرة بتوفير ما يحتاج إليه من طعام وشراب ومرة بإظهار قدر كبير من الاحترام والتبجيل، ومرات بسرعة تنفيذ طلباته وجعلها ملباة في التو واللحظة.
وفي الوقت ذاته مارس جبران الذكي مع المساعد جبلة أساليب إعادة البرمجة من جديد، فأخذ يصور المصنع أنه سيئ وأن أموره تسير إلى الأسوأ.
في الوقت ذاته، كان في هذا المصنع عامل عجوز كبير في السن يدعى مطاوع شاب عارضاه واحدودب ظهره، كان منضبطا في عمله متميزا في إنتاجيته إلا أنه كان يعيبه شيء واحد، صدقه وصراحته وهي التي كانت تخيف المقصرين وأولهم جبران.
زين جبران للمساعد الدهان جبلة فكرة إبعاد هذا العامل العجوز وأخذ يقدم له المبررات ويحسنها بل ويضفي عليها شيئا من الدلائل لتثبت تخاذل هذا العجوز وخيانته ومكره، ولأن هذه الأدلة كانت واضحة وجلية من وجهة الساذج جبلة ومستوى تفكيره، فقد قام بحملها إلى رئيس هيئة الأركان العامة المهيب الركن الخياط الذي شكر مساعده على هذه المعلومات القيمة وكافأة بوسام من الدرجة العاشرة، وأوصى باستدعاء ذلك العامل الداهية جبران، وعندما قابله وجده من الذين أتاهم الله بسطة في العلم والجسم أي أنه كان من نفس طبقة زبائنه الذين يستمتع ويستفيد من إعادة تقييف ملابسهم وتصغيرها ليظهروا أكثر جمالا وأناقة.
اقتنع الجنرال بكلام العامل الداهية جبران وقال: من هذا العجوز؟ وكيف شكله؟ لا بد أن أراه قبل أن أحكم عليه!
قال له العامل جبران: لا داعي لرؤيته يا سيدي، سأصفه لكم، ولأن جبران داهية فقد اختار من الأوصاف ما كان شكليا لا يتواءم مع مصلحة الجنرال وطبيعة تفكيره وعمله كخياط يرتق الثياب ويعيد قيافتها.. قال جبران: إنه قصير القامة جدا بل إنه أقصر عامل في المصنع، لا يهتم بأناقته ولا يعترف بالخياطين أمثالكم!، اعتدل الجنرال في جلسته وهو يعبث في لحيته حيرة وحنقا وقال: كم كتلته؟ وهل طوله يتناسب مع وزنه؟، صاح العامل الداهية وهلل وكبر وقال: الآن حصحص الحق، والله يا سيدي لا كتلة له ولا وزن.
قال الجنرال :حكمنا عليه بالإعدام شنقا حتى الموت.
وصل الخبر إلى العجوز المسكين مطاوع فخارت قواه، ورفع أمره إلى رئيس الجمهورية يستفسر عن هذا الحكم الغيابي، فأفاده الرئيس بالتالي: نشكرك على جهودك وأحسن الله عزاءك في نفسك، وهذا النوع من الأحكام لا أستطيع تعطيلها، خصوصا أنها جاءت من ثلاثة قضاة، لم ييأس العجوز اتجه إلى نائب رئيس الجمهورية فقال له الأخير نفس ما قاله الرئيس وزاد عليه بباقة ورد أرسلها لتكون على قبرة ليفوح شذاها عند مواراة جثمانه.
نفذ الحكم على العجوز واقتص للمصلحة العامة منه كما جرت العادة!، سجي جثمانه الثرى، بكى عليه نفر قليل ممن عرفوا بولائهم للحق، كان المشهد حزينا، كان من بين المشيعين كما جرت العادة العامل الداهية جبران الذي بكى وأبكى، كعادته عند تأبين ضحاياه ومنافسيه في ذلك المصنع المشؤوم.
قرأ الجميع الفاتحة على روح الشهيد مطاوع كآخر مراسم الدفن والتأبين إلا جبران فقد قرأ قوله تعالى: «اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي».
- علي المطوع