أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: لم تكن الفلسفة طالَعَ خيرٍ في تاريخِنا المجيد؛ ولكنها طالَعُ خير على أوربا وأمريكا، كما أنَّ دينَنا في غِنىً عنها؛ فلا بد مِن التوفيق بين حالَيْها في واقعٍ مطمور، وحاضر مشهود؛ ولا سيما أنَّ الفلسفةَ في متابَعَتِي وتحقيقاتي منذ كنت في بحر ثلاثين عاماً من عمري هي نَظريَّةُ المعرفةِ والعلم؛ وليستْ هي خيالاتُ العقل وأهوائِه مِن شهوات النفس؛ وهي أيضاً حقائق دين الله من براهينه جلَّ جلالُه في الأنفس والآفاق؛ فهي الإيمانُ بالبراهينِ التي وَهَبها الله عبادَه مُؤمنَهم وكافِرَهم؛ فلا يبوءُ بالخسرانِ المبين إلا مَن أبَى؛ فعنايتي بالفلسفة تحليلٌ جديدٌ لِحَقٍّ قديم؛ لأنَّ عُلَماءِ الْمُسلِمين يُؤْمِنونَ أَشَدَّ الإيمان بالحقائقِ التي مصدرُها شرعُ الله، وبالحقائِقِ التي مصدرها آياتُ الله في الأنفس والآفاق؛ وكلُّ هذا لا يُنافي حِرْصَنا على الفلسفات التي تُؤَيِّدُها أو تعارضها؛ لأنَّ واجبنا كبير في نشر العقيدة وتثبيتها في نفوس وعقول كثيرٍ من شبابنا الذين قَرَؤوا كثيراً عن فلسفة الْمَاديين والْتَجريبيين، وعن اعتراضاتِ نُقَّادِ الحقائقِ الدينية؛ فكادوا يُفْتَنُوْنَ بها، ويَفْتِنُوْنَ غيرَهم، ولن يتهيَّأَ واجبُ نشرِ العقيدة وتثبيتِها ما لم نواجه تلك الفلسفاتِ وجهاً لوجه بحقائق هذا الدين؛ وذلك مع كلِّ مذهب يجهل عقيدتنا التي هي الإيمانُ بشرعِ الله؛ فإذا ما أشحنا بوجوهنا غاضبين عن تيَّار الفلسفة، وجعلناه يعبر إلى أذهان شبابنا وبني ملتنا دون أنْ نضعَ حقائقَ الدين سدّْاً منيعاً يقِف مَدَّ ذلك التيار: فإنما نكونُ حقَّاً غيرَ واثقين بحقائقِ ديننا؛ بل كان معنى ذلك أننا مُقْتَنِعون بأنَّ الدين عاجِزٌ عن مواجهة الفلسفة البشرية المِسكينة؛ ولستُ مُغْرِباً في هذا الادِّعاء؛ فأقربُ دليلٍ لي هو واقِعُنا التاريخي؛ فكلما شوَّشتْ الفلسفَةُ على حقائقِ العقيدة أتاح الله مجددين يجلون صدأَها، ويرفعون أمامها حقائقَ بيضاءَ نقية تَسُرُّ الناظرين ببصائرهم؛ وهؤلاء هم المجدِّدون حقاً من أمثالِ ابن حزم، وأبي حامد الغزالي من بعض الوجوه، والإمام ابن تيمية، وغيرِهم كثير - رحمهم الله تعالى؛ والتجديدُ - أعزَّنا اللهُ وإياكم - ليس غُرْبة؛ فالذين يدْعون إلى استبعادِ حقائقِ الدين وتأوِيْلها بما يعلمون يقيناً أنه ليس مرادَ دينِ الله ليسوا مجددين؛ ولكنهم مستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير.. والذين يلهثونوراء النصوص ويُحَمِّلُونها ما لا تحتمل لتأْييدِ آراء فلسفيةٍ أو مكتشفاتٍ علمية لم تكنْ موضعَ جزمٍ بَعْدُ: ليسوا أيضاً بمجددين، ولكنهم مُغْرِبون ومشتطُّون؛ وهؤلاء وأولئك: مهزومون روحياً، جاهلون بطبيعة هذا الدين.
قال أبو عبدالرحمن: لابدَّ من الثقة بهذا الدين وشرح وجهته، ولابد من الاقتناعِ بهذه الأمَّةِ وأنها خير أمة أخرجت للناس، وأنَّ واجبها أنْ تكون في الطليعة لا الأُمَّعِيَّة والتبعية؛ لأن واقِعَ أمتنا وديننا يوجِب ذلك فِكْرياً؛ فإذا كان مُنطَلقُ المصلحُ من هذه الأصول فهو الْمُجدِّد حقاً؛ وأقربُ دليلٍ على أنَّ حقائقَ الدين لابد أن تلاقِي كلَّ فكرٍ مهما كان جبَّاراً عتيداً وجهاً لوجهٍ من واقع تارِيخنا؛ فلولا عظمةُ أولئك المجدِّدين الفكرية - رحمهم الله تعالى: لكان الدين كما يقول الملاحدة (يقين العجائز والعوام)، والحمد الله الذي وقَى إسلامَنا من الخُرافة التي قذفتْ بكثيرٍ مِمَّن قَبلنا مِن الأمم من شاهق؛ وتلك هي الحالِقَةُ المهلكةُ؛ والسرُّ في ذلك - والله أعلم: أن الله ضمن لنا حفظ هذا الدين بقوله سبحانه وتعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (9) سورة الحجر، وأما المسيحية واليهودية فقد وكلها الله إلى المسيحيين واليهود أنفسِهم بقوله تعالى: {بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ} (44) سورة المائدة..
وإلى لقاءٍ في السبتِ القادِم إنْ شاء الله تعالى, والله المُستعانُ.