د.محمد بن عبدالرحمن البشر
كتاب (زاد المسافر وقوت الحاضر) لابن الجزار التونسي به طرائف، ووصفات طبية لكثير من الأمراض السائدة، وهو يداوي غيره بما يتوافر لديه من أدوية، وبما هو شائع في ذلك العصر من طرق، طبقًا للأدوات الطبية المتاحة آنذاك. ومما لا أراه صواباً اندفاع الكثير للتداوي بأدوية موروثة من تلك العصور، رغم أن الطب الحديث قد وفّر وصفات ووسائل طبية أكثر نجاعة من تلك، إضافة إلى أخذها بعين الاعتبار الأعراض الجانبية التي قد يتعرض لها المريض، لكن المريض بطبعه يستعجل الشفاء - شفانا الله وإياكم - ويتلمس الصحة في كل دواء، حتى وإن كان موروثاً لم تتم دراسته دراسة علمية دقيقة وافية، ولم تقره المؤسسات الطبية العالمية.. وهذا مؤلم حقاً.
وابن الجزار عاش في تونس، ولم يفارقها؛ فهو لم يسافر إلى الشرق لقصد الحج، أو الأخذ بعلم ابن سيناء، كما لم يذهب إلى الأندلس للأخذ من علمائها البارزين، وإنما اكتفى بما ورثه من علماء القيروان منارة العلم آنذاك.
وبحكم معاصرته للعبيديين، وصداقته للمعتز، الحاكم الفاطمي العبيدي آنذاك، فقد شك الناس في سريرته ومذهبه، وأنه لم يكن صافياً من المذهب الذي يتبناه الفاطميون، إضافة إلى أن أستاذه إسحاق بن سليمان كان مع عبيدالله المهدي، وكذلك ابن عمران. وما يدحض ذلك أن والده كان طبيباً، تتلمذ على أئمة المذهب المالكي، وأخذ من العالم المالكي المشهور سحنون، وابن سلام، وحمديس القطان.
أما ما ذكر من تأليف ابن الجزار كتاب (أطباء الدولة) الذي يقتصر على تاريخ العبيديين فلا يمكن جعله دليلاً على تعلقه بذلك المذهب، لكنه شاب رأى تغير الأحوال في بلده، وتحول السلطة من بني الأغلب السنيين المالكيين إلى العبيديين الفاطميين.
نعود إلى طبه لتقول: إن الاعتقاد السائد آنذاك رسخه الحكيم اليوناني بقراط بقوله «يتداوى كل عليل بعقاقير أرضه؛ فإن الطبيعة تفرع من عادتها». وعلى أساس هذه القاعدة فإن ابن الجزار يعتبر الطبيب المناسب لتطبيب أهل القيروان ومن حولها؛ لأنه أخذ جميع علمه من بيئته، واستخدم ما هو متاح هناك من أعشاب وغيرها من أدوية. ومن هنا فهو يقول: «إن كثيراً من الأدوية التي ألفها جالينوس وبقراط مجهولة غير معروفة في اللغة التي لا غنى لأحد من الأطباء عنها».
والحقيقة إن أبا جعفر ابن الجزار كان مشهوراً في أوروبا أكثر من شهرته في بلاده؛ فقد كانت كتبه سائدة هناك منذ القرن العاشر الميلادي، وكان ذلك في حياته وبعد مماته، وكان هو الطبيب الوحيد الذي ليس من أصل يوناني، ونقلت كنيته إلى اليونانية، واستخدمت من قِبل أطباء اليونان لعلاج مرضاهم.
وسأنقل مثالاً ليطلع القارئ على ما كان سائداً من علم الطب. فها هو ابن الجزار الطبيب المشهور يقول عن مرض الثعلبة: «وقال أبو جعفر أحمد بن إبراهيم بن أبي خالد رحمه الله: إن الشَّعر يتولد من الدخان البخاري الغليظ الذي يحدث عن الحرارة النارية في البدن، وإنما ينمو الشعر ويتزين من هذا البخار؛ ولذلك لما ذهب هذا الفعل الدخاني الغليظ حتى لا يبقى منه شيء، أو فسد وصار رديئا، وجب ضرورة أن يفسد الشعر؛ فإن النبات يفسد ويعطب لأحد هذين الشيئين: إما لعدم الرطوبة أصلاً، وإما لأنه لا يجد إلا رطوبة لا ينتفع بها. فالشَّعر متى ذهب الخلط الذي يمده ويغذيه أصلاً حدث عن ذلك الصلع، وهو داء لا دواء له، ولا حيلة فيه. ومتى فضل هذا الخلط وبرد حدث عن ذلك ذهاب الشعر وسقوطه. ويسمى داء الثعلب لأنه كثيرًا ما يعرض للثعلب».
وابن الجزار تطرق إلى العشق والعشاق والتشخيص وكيفية العلاج، ولديه أفكار في العلاج، لا أراها تتسق مع المنهج الديني. ومن تشخيصه وعلاجه أن العشق يتولد في الدماغ، وأنه إفراط الشوق مع شيء من المتطلبات؛ ولهذا يصاحبه أوجاع في النفس، تؤدي إلى السهر. وكما كان النصح ناجمًا من إفراط المودة فإن علة العشق تختلف؛ فهي شدة حاجة العاشق إلى إخراج الفضل من البدن. ويذكر أن علة العشق اشتياق النفس إلى القرب، والنفس من شأنها الولوع والعجب بكل شيء حسن من جواهر أو نبت، أو غير ذلك. والنفس تتوق للحصول على كل جميل يتشكل بداخلها، وليس بالضرورة أن يكون جميلاً في ذاته.
هكذا كان يفكر أولئك. ولنا تفكيرنا الذي نستقيه مما صنعه علماء عصرنا؛ ولهذا فمن غير المناسب التمسك بالماضي بعلاته.