محمد أبا الخيل
كثر مؤخرًا استخدام تعبير (الاختطاف) في سياق مثل (اختطاف الإسلام) في أدبيات الحديث عن توجهات منظمات الإسلام السياسي، أو مثل (اختطاف القضية) في أدبيات الخلافات بين الفصائل الفلسطينية، وساد استخدام التعبير في كل شأن تقريبًا للتعبير عن موقف فكري أو نضالي لاحتكار الشأن المشترك، وعدم قبول استئثار الشريك الآخر في الشأن خوفًا من فقدان الحرية أو الانتماء أو التعبير عن أين منهما. هذا التعبير بهذه الصورة هو مجازٍ للمعنى الحقيقي للاختطاف وهو (سلب الإنسان حريته قسرًا بإبعاده عمن يحميه)، وهنا لا بد من القول إن هذه المجازية في التعبير فيها إسراف، ففي الواقع لا أحد قادر على اختطاف الإسلام ولا أحد قادر على اختطاف القضية أو احتكارها، فكلا الأمرين ليس شيئًا ماديًا يحاز ويحتكر أو يقصى عن مالكه أو المنتمي له أو يستأثر به دون الآخرين.
عندما أقرأ مقالاً أو كتابًا في أدبيات تستخدم تعبير (الاختطاف) لخلق انطباع بأن هناك أحدًا متهمًا بما لا يحق له شرعًا وأنه نتيجة لذلك هناك ظالم ومظلوم في طرفي قضية فكرية أو نضالية، أحاول أن استخرج من تلك، أمرين الأول، ما هو الأمر المشروع أي ما هي الصيغة التي تمثل الحق في ذلك المشترك بين طرفي الاختطاف؟، والأمر الثاني هو لمن الحق في تقرير الصيغة التي تمثل مشروعية ذلك الشأن في حال الاختلاف وضياع مرجعية مشتركة لصيغة موحدة أصلاً أو اتفاقًا؟.
في الشؤون والمعتقدات الفكرية التي التحمت بالذات وأصبحت جزءًا من الهوية للإنسان مثل الدين واللغة والانتماء الوطني وغيرها التي ربما تكون بدرجة أقل من الانتماء، تكون عادة لها مرجعية تاريخية تمثل مركزية ذلك الشأن ومنطلقه وأصله، وبمرور الزمن منذ ذلك التاريخ تشتت تلك المرجعية بفعل الخلافات حول تفسيرات النصوص الأصلية بفعل اختلاف المصالح والمفاهيم ونشأ من ذلك مرجعيات فرعية بعضها ساد على البعض بعوامل الحروب والقهر أو الانضواء والذوبان، ومع ذلك تستمر تلك المرجعيات في الانتماء للأصل الأول وتستأثر بمشروعية ذلك في طروحاتها وأدبيتها التي تجتهد في سلب المرجعيات المنافسة الأخرى ذلك الانتماء، وهكذا تستمر الخلافات عبر التاريخ حول مشروعية تفسير الأصل، وقد تنفصل أحد المرجعيات الفرعية عن الأصل لتكوين مرجعية أصلية جديدة نتيجة لمستجدات أرغمتها على ذلك لحفظ كينونتها أو لنمو مفاهيم أبعدتها عن الأصل بصورة لم يعد الرابط المعنوي ذا فائدة. من هذا الفهم أقف حائرًا كمحايد في تأصيل الحق المشروع في قضايا (الاختطاف)، وأشعر أنه يلزم اتخاذ موقف مائل مع أي طرف للاستفادة من ذلك الكتاب أو المقال أو هذا هو حقيقة ما يسعى له الكاتب، فهو يريد أن يختطف بمفاهيمه رأي القارئ وينتزع منه موقف مؤيد، لذا أجد نفسي أحيانًا مجبرًا بسلطة فكري على عدم الاستمرار في القراءة عندما لا أستطيع ترك الحياد حول الموضوع.
في الأمر الثاني ومن منطلق حيادي، أجد صعوبة في تحديد صاحب الحق في وضع معايير الحكم على مشروعية شأن فكري أو اعتقادي له مرجعية أصلية تاريخية تفرعت لمرجعيات فرعية، فكل منهم في ساحة الحكم على أي نحو، هم واحد من تلك المرجعيات الفرعية وعادة ما يتطرفون في أحكامهم حول الآخرين بصورة قاسية وطاردة لأي مدعٍ غير مماثل لهم بحق شرعي في الانتماء للأصل، هذا الطرد المتبادل والأحكام القاسية المتبادلة لا تستثير شعوري بحق أي منهم في الحكم على أصلية منهجه فما بالك في حكمه على أصلية منهج غيره، ومع ذلك أجد من المنطق قبول هذا الواقع، فهذه طبيعة بشرية خلقها الله غريزة لعمارة الأرض، فالاختلاف والخلاف هي أسباب تنافس البشر فيما بينهم لتكوين التَّميز واستغلال قوانين الحياة وموارد الطبيعة في تكوين ذلك التَّميز الذي هو أساس الحضارة، فالحضارة البشرية كأصل بنيت على الخلاف.
محصلة هذا المقال هي في القول «إن الخلافات والاختلافات الفكرية والعقدية والانتمائية تسير مع التاريخ نحو تفاصيل أكثر ومزيد من الخلاف والانقسام وربما البعد عن أصلها أو الاضمحلال في غيرها، والصراعات لتغليب بعضها على الآخر هي أمر لازم لعمارة الكون، ولكن هذه الصراعات لا يلزم أن تكون صراعات حربية دموية قهرية، في هذا العصر نحن بحاجة لصراعات أكثر تطورًا، صراعات فكرية وتعبيرية وفنية وثقافية وتقنية، صراعات لاكتساب المختلف بهزيمة ما لديه من منجزات، لا صراعات بالقضاء عليه وسلبه حريته وقهره».