د. زايد الحارثي
يتبادر إلى ذهن القارئ سؤال مهم جدير بالطرح، وهو هل ما تم معرفته واستعراضه عن التعليم في ماليزيا والتحدث بإسهاب وعمق عن مراحله ونظامه وتاريخه وتنوعه وتفرده بتجاربه يكشف أو يعطي أو يكفي للاستنتاج على أن التعليم في ماليزيا - مثلاً -أصبح أنموذجاً؟
وهل الماليزيون أنفسهم وصلوا إلى هذه القناعة، أم أن هناك تطلعات وخططاً واردة لمواجهة تحديات الواقع والمستقبل؟
وقبل الخوض في الإجابة على هذين السؤالين يحضرنا وأعتقد أنه يجب أن يضعه بعين الاعتبار المختصون والمسؤولون في مملكتنا الغالية العظيمة أن نتذكر بعض المبادئ والأصول من كتاب ربنا العظيم القرآن الكريم ومن سنة رسولنا محمد - صلى الله عليه وسلم - ومن تاريخنا الخالد التليد، ومن حاضر الدول التي حجزت لنفسها مكاناً مرموقاً في الصف الأول.
ففي القرآن الكريم نجد كلمة (اقْرَأْ) [سورة العلق]، وهي دعوة صريحة وأمر صريح بالقراءة، وهي مفتاح العلم والثقافة. وأما الأحاديث فهي كثيرة وفيرة في فضل العلم والعلماء وطلب العلم، فمنها ما قاله رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام «فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء». والقارئ لتاريخنا ببداهة فهم واتزان نظر يجد أن العصر الإسلامي كان عصراً ذهبياً يعج بالعلوم والفنون والتقدم والازدهار بصبغة علم وكوكبة علماء وضعوا أبجديات العلوم وقوانينها وقواعدها، فألفوا وحفظوا ووثقوا، ومُلئت المكتبات بالكتب القيمة والمخطوطات والتراث والكتب العلمية الطبية، ككتاب «القانون» في الطب للعالم العربي ابن سينا، وبدأت أوروبا تتخذ من الجزيرة العربية قبلة وتلتفت إليها الانظار، وشمرت عن سواعد أبنائها ليلتحقوا بركاب العرب ويأخذوا من زاد علمهم، وتبدأ رحلة الترجمة ووضع لبنات لإصلاح أوروبا.
نعم هكذا هي الأمم عندما تشعر بالخطر لا تخلي مسؤوليتها، بل على العكس من ذلك تعلن حالة طوارئ وتقول بصوت عالٍ مرتفع «إن الأمة في خطر»، كما فعل الكونغرس الأمريكي في تقريره في الثمانينات ليكون العنوان الأبرز «our nation at risk» الأمة في خطر.
الذي أحدث حدثاً بارزاً في تاريخ العملية التعليمية الأمريكية الحديثة بعد حالة ضعف ووهن استشعره «المسؤولون الأمريكيون» في المدارس الأمريكية، فكان من مسؤوليته الملقاة على عاتقه أن يكون إصلاح التعليم أمراً إلزامياً لمواجهة الخطر المحدق بأمته.
التعليم حجر الزاوية في قوة الدولة وضعفها، فكيف بمن يسجل حضوراً قوياً في ذيل التقارير الصادرة عن التعليم ويحتل الصدارة في المراكز الأخيرة التي تكشف هبوطاً حاداً في مستويات الجودة للجامعات؟ أليس الأولى التحرك السريع والجاد لمعالجة الأسباب التي تؤدي إلى هذا التأخير، والاستيقاظ من النوم العميق! ثم انظر إلى دولة مجاورة قريبة لماليزيا مشتركة معها بحدود، ألا وهي سنغافورة التي يعرفها العالم أجمع بأنها منارة علم أشهر من نار على علم، وهي لم يمض على استقلالها إلا عقود قليلة، نحن لن نتطرق إلى الافتتان بجمالها العصري الحضاري وقوة بنيتها التحتية، فصورة فوتوغرافية واحدة تكفي أن تذهلك عن هذه الدولة، لكن سنضع السر في ذلك والمكنون في مؤسسها وباني نهضتها «لي كوان بو» مؤسس سنغافورة الذي قال «أظن أنني لم أقم بالمعجزة في سنغافورة، أنا فقط قمت بواجبي فخصصت موارد الدولة للتعليم، وغيرت مكانة المعلم من الطبقات الدنيا في المجتمع إلى المكان اللائق بهم، وهم من صنعوا المعجزة التي يعيشها المواطنون الآن، وأي مسؤول يحب بلده ويهتم بشعبه كان سيفعل مثلي»... بهذه العبارة قفزت الدولة قفزة عالية وحققت طموحها.
نعود إلى ماليزيا التي تلتفت يمنة ويسرة ولا تجد إلا الماليزي يتبوأ مناصب القيادة في بلاده، وكل شيء في ماليزيا تجد فيه بصمة ماليزية وطنية، وهذا أسهم في دفعها نحو التقدم والتطور، وأن تكون نمراً آسيوياً لتقول للعالم أجمع «هنا ماليزيا».
الجميل في ماليزيا وهي تعزي نجاحها إلى اهتمامها بالعلم والتعليم أن مسؤولي التعليم في ماليزيا كخلية نحل في وضع الخطط والرؤى التي من شأنها تحقيق رؤية ماليزيا 2020، وذلك بوضع خطة تعليمية شاملة للتعليم العام والتعليم العالي لعشر سنوات قادمة، وهذا ما سوف نختم به هذه السلسلة التي نضع فيها أسرار تطور ماليزيا وتقدمها والتي لمسناها عن قرب، ونقدم تجربتها من واقع خبرتنا التعليمية والتربوية ومن خلال اللقاءات المستمرة مع مسؤولي التعليم في ماليزيا ودعوتهم للملحقية الثقافية السعودية بماليزيا في لقاءات متفردة وأمسيات ثقافية قيمة واجتماعات هادفة يعبر فيها القيادي والمسؤول الماليزي في وزارة التعليم الماليزية أو الجامعة ومؤسسات التعليم الماليزية المختلفة بعد حضورهم وانصرافهم منها عن رضاهم بهذا الجسر المتين الذي قمنا بتأسيسه للتواصل الحضاري والثقافي بين مملكتنا الغالية وماليزيا.