د.فوزية أبو خالد
مع وجود مشتركات عريضة بين الأجيال في حب الأوطان، فإن لكل جيل نصيبه الخاص من الطموح والأحلام الوطنية التي تختلف باختلاف المرحلة التاريخية والواقع الاجتماعي والحالة الاقتصادية والتيارات الفكرية والموجات الثقافية ومساحة الجدل بين السائد السياسي وبين البدائل المعارضة أو المختلفة أو النقدية. غير أنه يمكن بالإضافة لما تقدم من أسباب، اختلاف الأجيال في الطموح والأحلام الوطنية يكون سببًا لا يقل أهمية عن أي منها بل وقد يعادل عددًا منها مجتمعة ويكون مؤثرًا في كل منها وفيها جميعًا وهو عامل التطور التقني.
وإذا كان من أفصح وأوضح قوة تأثير العامل الأخير قد تمثل في الثورة الصناعية على مستوى التاريخ الاجتماعي للدول الغربية وللمجتمع العالمي عمومًا، حيث أدى ذلك التحول التقني الجذري إلى إحداث تغيير جذري في مسارات السياسة والاجتماع والاقتصاد والفكر والثقافة وبالتالي في طموح وأحلام الأجيال وفي أساليب تعبيرها عن حب الوطن، فإن التسارع الضوئي في الثورات التقنية اليوم قد عمم تأثير العامل التقني عالميًا حتى فيما كان يعرف بأشد المجتمعات عزلة ومحافظة وخصوصية. فلم تعد هناك في أي مجتمع كان أجيال بمنأي عن اختلاف طموحها وأحلامها الوطنية عمن سبقوها.
ولكن أحد الفوارق من عدد آخر منها، أنه إذا كانت المجتمعات المنتجة للثورة التقنية قد استطاعت ضمن جدل أضدادها الداخلي أن تستوعب تلك التحولات بقانون التراكم والتغيير النوعي والكمي معًا، فإن الأمر مختلف في الكثير من المجتمعات المستهلكة للتقنية، فقد تتحول تلك التقنية وخصوصًا في استقبالها ضمن أنظمة سياسية وبنى اجتماعية وأوعية ثقافية مغايرة لتلك التي أنتجتها ومتخلفة عنها إلى نوع من السلاح في صراع الأجيال وفي صراع القوى وفي صراع التحولات بل وقد يجري استخدامها سلبيًا لتأجيج تلك الصراعات وتحويلها عن مسارات حلها سلميًا باتجاه تغييرات تنموية منشودة إلى مسار أحادي تصفوي تراجعي.
أقلب ما تقدم من قول في ضوء تجربتنا في المجتمع السعودي تحديدًا مع أنواع التقنية من الساعة أم زايد أو أم صليب التي كثيرًا ما يذكرني الموقف منها عندنا بفزع رهبان قصر شرلمان من الساعة العجيبة هدية الخليفة هارون الرشيد لملك الفرنجة عام 807م، كمنتج إبداعي من منتجات تلك الحقبة الذهبية من حقب الحضارة العربية الإسلامية، وتفازعهم بالفؤوس لتحطيمها، إلى الموقف من الراديو والأسطوانات والسيارة والبرق والبريد والهاتف والميكرفون والمسجل والسينما والتلفزيون والكاميرا وكاميرا الجوال إلى وقت قريب. وأطرح على نفسي أسئلة سيسيولوجية قد تتعدد إجابتها حسب إطار التحليل وأدواته ودقة المعلومات الميدانية المتوافرة. ومنها الأسئلة التالية:
لماذا تتحول منتجات تقنية بعينها عدا عمّا سواها إلى مصدر خلاف يتطور إلى شكل حاد من أشكال الخلاف الذي يبدو أن لا حل له إلا بمواجهات جارحة، إن كان الأصل استنكار الجديد أو ما يسمى مستنكرًا، فلماذا مر موضوع دخول الثلاجة والغسالة مثلاً بسلام بينما كان دخول التلفزيون على سبيل المثال سببًا في مواجهة مسلحة؟
لماذا يدور سجال حام الوطيس في مسألة الوجود الرمزي للسينما أو بالأحرى لبعض العروض السينمائية المحدودة بنخب أسرية، تجارية أو مؤسسية وهل كان وجودها انفتاحًا أو غفلة بينما لا أحد يتساءل عن مكائن الخياطة ولا أدوات الزراعة ولا الأسلحة ولا حتى عن مواطير الكهرباء التي بدأ بعضها أيضًا كامتيازات نخبوية؟!
لماذا مر وجود الفيديو مرورًا سلميًا بينما أثارت «الدشوش» إشكالية وتشكيكًا؟. ولماذا كانت الجامعات تعاقب الطالبة التي يوجد بحوزتها كاميرا بالطرد من الجامعة لمدة فصل دراسي كامل؟ ولماذا كانت تمنع كاميرات الجوال في بدايتها منعًا باتًا من المناسبات العامة كالأعراس؟ ولماذا تغير الأمر الآن؟ وهل هو تطبيع طبيعي أو مهادنة أو استسلام؟ ولماذا تبدو حفلات المسرح الغنائي أو ما هو تنويع عليها نوعًا من الأحداث وكأنها مجال اليوم لتسجيل نقاط من النصر والهزيمة بين تلك القوى التي يبدو أنها تحول أبسط موقف لتأكيد أن هناك صراعًا مازال قائمًا وإن استتر لدواعي متعددة. هل لأن الصراع مازال قائمًا هل لأن مثل هذه الصراعات لا تحسم بالقرارات أو بالمناشدة والمناصحة أو لأسباب أخرى واقرة في بنيتنا الاجتماعية وفي طبيعة علاقة التيارات ببعضها البعض وفي نظامنا السياسي وفي فكرنا الاجتماعي وفكرنا الديني وفي ثقافتنا السائدة والمستجدة.
لا أظن من الموضوعية ولا من الواقع ولا من الحقيقة المتعددة وليس الأحادية أن نقبل تلك الإجابة المتكررة والمتفشية على أنها الإجابة الوحيدة الشافية وأعني تلك التي تحاول أن تختزل كل الجدل الاجتماعي للتحولات وصداماته المعلنة أو المقنعة برده إلى الموقف الديني. صحيح أن لذلك العامل سلطته المغلقة والمهيمنة في نفس الوقت التي تجعل له نصيب الأسد في السيطرة على توجه جدل التحولات ولكن لا أظنه إلا ويجري من خلال تضخيمه تجنب مساءلة العوامل الأخرى التي لا تقل تأثيرًا وغالبًا لصالح أو بدعاوى تجنب إن لم يكن مجاملة جانبها السياسي. كما لا أظنه إلا بدافع النظر والتعامل مع القوى الاجتماعية والمجتمع ككل كرعية لا تملك من الأمر شيئًا ما لم تكن ممثلة في قوة قبلية أو دينية الخ يجري تجاهلها كعامل مستقل من تلك العوامل. ولا أظن أيضًا في نفس السياق أنه يمكن أن يجري تجاهل التداخل والتقاطع ما بين تلك العوامل سواء ما تعلق منها بالفكري أو الديني وبالاجتماعي أو السياسي والاقتصادي والسياسي.
أخيرًا يقف في حلقي سؤال ليس أخيرًا ولكني أختتم به هذا المقال لماذا إلى الآن وعلى الرغم من مضي ما يزيد على أكثر من نصف قرن على عمر الجامعات عندنا بتخصصاتها من الدراسات الاجتماعية ما زلنا بعيدين عن اجتراح دراسات شفيفة تحفر في تاريخنا الاجتماعي القريب على الأقل مع تأسيس المملكة العربية السعودية وتقدم لنا بعض الاجتهادات العلمية في قراءة ذلك التاريخ لعل الأجيال تعلم ما حدث وتعقلن ما يحدث أو ما تريد حدوثه مستقبلاً. هل لأن ذلك التاريخ لم يكتب أصلاً إلا بنسخته السياسية الرسمية إلا فيما ندر أو لنقص الحرية في عناصر الهواء أو لاعتمادنا لما كتبه المستشرقون في المرحلة الأولى من التأسيس وما تكتبه مراكز البحوث عنا الآن.
لعلنا لو نفعل عبر مؤسساتنا البحثية العتيقة أو بمؤسسات بحثية جديدة أقدر على اجتراح التوثيق والتحليل ليس للرسمي وحسب نتيح للأجيال التعرف على طموح وأحلام الأجيال التي سبقتها فتستطيع التمتع بمشروعية أن يكون لها طموحها وأحلامها في حب الوطن بطريقة خلاقة لا تسقط في شرك سقطات الماضي وتعثراته وسلطاته الخانقة ومزايداته الصراعية التي لم تعد مناسبة للحظة المعاصرة.