عبده الأسمري
لو سئل كل واحد منا ما هي الرسالة الأولى التي دخلت عقلة وامتزجت بخواطره عن الموت.. متى كانت وكيف تشكلت وأين تكونت؟؟.. في جنازة جائلة مرت في الطفولة أم عبرة مفاجئة ارتبطت بالمراهقة أم حزن مفجع في الشباب أم أن الموت بات لائحة تمر أمامنا كل يوم في الشارع داخل الجوامع أمام شاشة التلفاز في أوراقنا بين ظهرانينا داخل ذواتنا.. لذا تظل هنالك رسالة أولى بين الحياة والموت موجودة في ذاكرة كل إنسان.
تظل فلسلفة الموت حاضرة بلغة الواقع رغم غيبية القدر واختفاء تفاصيل ما بعد الموت وفي ظل ذلك لا يريح العقول ويلهم الأنفس ويطمئن القلوب إلا آيات كريمات من الذكر الحكيم وأحاديث نبوية شريفة تبلور «الموت» في رسائل محددة تجعل الإيمان بالقضاء والقدر ركنا ثابتا مرتبطا بالخير والشر.
هنالك رسائل أخرى كانت تصلنا في زمن مضى مخيفة، فيها وعيد وتهديد، قلت درجات قوتها وألمها مع ارتفاع درجات العلم وتزايد سمات الفهم وانخفاض معدلات التطرف والتشدد لتتحول إلى رسائل تذكير وشتان ما بين التهديد والتذكير من طرف الخوف والذعر إلى وسطية التذكر والموعظة. تلاشت أشرطة الثعابين بالمقابر والقصص المفجعة للموت والروايات الدرامية للدفن. تحولت إلى قصص فيها عبرة واعتبار، تنزل الدموع وتجذب العبرات بإيمان قويم وسكينة إيمانية تتراوح بين الخوف والرجاء من الله سبحانة وتعالى.
كثرت قصص الموت وأصبحت تلك الرسائل أكثر وضوحا وأعلى شفافية، ارتفعت فيها درجات الاعتبار، تزايدت معها معدلات الوعي، غابت حولها معاني الفاجعة وما ذلك سوى اعتبارات إنسانية فاخرة بجمال الصبر ورونق العبر التي أخرجت الرسائل بين الحياة والموت بطريقة مثلى أساسها «الحكمة» وهدفها «الانتظار والاعتبار».
عندما تطورت إلية التذكير بالموت وربطه بالحياة وتغيرت معها المواعظ والخطاب المنبري عن الموت والابتعاد عن القدح في الموتى وذمم الآخرين من قبلهم وبعدهم وصلت الرسالة الأسمى وهي أن الميت في ذمة الله وتحت رحمتة بعيدا عن فتح القلوب المغلقة والكشف عن الأنفس التي لا يعلمها إلا الله.
يتشكل الموت الآن أمام الطفل في سنوات عمره الأولى برسائل مختلفة قد تصيغها الأسرة بطريقة تربوية مفيدة، تحول الموت إلى أسلوب عيش بين السماع والمشاهدة وقد يبلورها القدر دون مقدمات فتدخل الذاكرة بتفاصيل اجبارية لتبدأ بعدها رسائل الأسرة المهيأة للطفل لتنقله إلى حتمية القدر والصبر وتقوية النفس وزيادة العزيمة لتكون الرسائل المستقبلية أقل وطاة حتى وان اشتدت الفواجع وعلت المصائب.
في مناهجنا التعليمية لا توجد رسائل تربوية هادفة واساليب تعليمية توضح ماهية الموت بطريقة سيكولوجية تحاكي سن كل مرحلة وسماتها كي تكون رسائل منهجية تساعد في تلقي رسائل اخرى لاحقة عن الموت من بوابة الحياة.
في جوامعنا ومجالسنا وحتى سرادق العزاء هنالك رسائل كثيرة تتلقاها الأنفس وتتلقفها الأرواح فالكل يسمع والجميع يستمع فلا بد أن يكون هنالك تذكير بالموت بطريقة ايحائية سلسة بعيدا عن الغلظة والتهديد .فما الموت سوى نقطة نهاية لحياة أخرى يعلمها الله.
الموت مصير محتوم ولكنه يخلف بيننا مئات الاستفسارات المختلطة بين التوقعات والافتراضات ويترك وراءه علامات استفهام وتعجب وذهول ووفق رسائل سابقة ربطت الحياة والموت.. فإن الأنفس المؤمنة تستفيق وتطمئن بالاعتصام بحبل الله وتتساقط أنفس أخرى في هاوية التكهنات والأسئلة العميقة .وكل ذلك يحكمه إيمان الإنسان وعزيمته وصبرة وقبلها حبه للوهاب الذي له ما أعطى وله ما أخذ وقناعة راسخة باجتماع مصيري يجمع المتحابين في الله على سرر متقابلين.