د. حسن بن فهد الهويمل
من المسلمات أهمية الشاريع الثقافية، في زمن تلتطم فيه الأفكار، وتصطرع المبادئ وسيان عندي قام بها أفراد متطوعون، أم قامت بها مؤسسات رسمية.
ففي ذلك حفظٌ لشتيت الجهود، ومتفرق المعارف، وصيانةٌ للقيم من البعثرة. وتهيئةُ الأجواء الملائمة لمن قعدت بهم هممهم، أو ضاقت بهم الحيل.
تناولت من قبل [المشاريع الثقافية، ودورنا فيها]. في محاضرة ألقيتها في مجلس العلّامة [حمد الجاسر] رحمه الله. ونشرت مجزأة هنا.
ولقد أبديت تذمري من قلة الشاريع الثقافية في بلد تزخر فيه كافة المنجزات الحضارية، وتنعم فيه المؤسسات: الفكرية، والثقافية، والحضارية بالدعم السخي.
فالمملكة بكل امكانياتها الحضارية تعد من مناطق الجذب للناشرين. وتَسْويقُ الكتاب طول العام على أشده. تشهد بذلك معارض الكتاب التي تقام بين الحين، والآخر.
والقوة الشرائية المغرية لدور النشر في كافة أنحاء العالم، جعلتها تحرص على المشاركة في كل معارض الكتاب.
في هذه الضميمة لم أكن حريصاً على مجرد الإشادة برموز ثقافية حملوا هم المشاريع، واستبقوا محققاتها، وحرصي على تقديمهم للنمذجة، والاقتداء مِمَّن لم يحدد مشاريعه المستقبلية، إذ ما أكثر المترددين:-
[إذا كُنْتَ ذَا رَأيٍ فَكُنْ ذَا عَزِيْمَةٍ
فإنَّ فَسَادَ الرَّأْيِ أَنْ تَتَرَدَّدَا]
أنا لم أكن من أصحاب المشاريع. وما أسفت على شيء أسفي على تفويت مثل هذه الفرص المتاحة
وحين لا أكون كذلك، فإنني من [أصحاب الهموم]. ولقد أعلل النفس بالمساواة بين المشاريع، والهموم. حتى يتسنى لي تجاوز المفضول إلى الأفضل، وأنَّي لي ذلك.
وليس مهماً ألا تكون لي مشاريع علمية، أو ثقافية بحجم ما أتطلع، فالحث على مكارم الأعمال، لا يشترط فيها أن يكون الحاث من أهلها. فالموعظة من باب التعاون على البر، والتقوى.
الملفت للنظر أن مشاريع الأفراد التطوعية، قد تفوق مشاريع المؤسسات المدعومة، ولاحكم للشاذ الذي لايكسر القاعدة، بل يعززها.
وإطلالتي الماضية حول نصيبنا من المشاريع الثقافية آسفتني، لأن إمكانياتنا تسبق منجزاتنا، وبخاصة في المجالات الثقافية. فيما لم يكن فينا، ولامنا معوق متعمد.
في زيارة مفاجئة، وغير مرتبة لخلوة علمية تعهدها، و نهض بكل متطلباتها سليل البيت العلمي، والتعليمي الأستاذ الدكتور [عبد العزيز بن إبراهيم العمري] والتفت من حوله كوكبة من الأكاديميين منذ أكثر من ثلاثة عقود، أوحت لي بأكثر من رغبة، وحَدَت بي إلى إثارة الموضوع، لأهميته، وحاجتنا إلى مثله.
هذه الكوكبة التي تعمر تلك الخلوة، أدركت قيمة العلم، والوقت، والجهد، وضرورة تحديد المهمات، وترتيب الأولويات، و التعاون على البحث، والمصابرة عليه. ولو فعلتها أكثر من مجموعة، لكان في ذلك خيرٌ كثير لكافة الحقول المعرفية.
ربما عَمْدت الجامعات إلى ما يسمى بـ[التفرغ العلمي] بحيث يُعطَي عضو هيئة التدريس عامًا، أو بعض عام، لإنجاز عمل معرفي، يتعلق بتخصصه، أو بترقيته. ولكن هذا لا يرقى لمستوى المشاريع العلمية التي نصبوا إليها. ونود أن تشيع في كافة الأوساط العلمية، وبخاصة بين الأكاديميين.
كما أن هناك زوايا سميت [خلوات] في بعض [المكتبات العامة]، يستفيد منها طلاب الدراسات العليا، والباحثون المخفون.
نحن بخير، ولكن التزود، واستباق الخيرات أفضل من القناعة بالميسور.
بودي قبل تقصي هذه الظاهرة الإشارة إلى مؤسسات علميه حققت فوق المؤمل منها. نجد ذلك - على سبيل المثال لا الحصر - في [دارة الملك عبدالعزيز] التي تعهدت بتقصي تاريخ المؤسس، وتقريبة لكافة شرائح المجتمع، عَبْر اللجان، والمتخصصين من الأفراد.
ومنجزها المعرفي تحامى الدعاية الإعلامية، والتزم بالمصداقية، والتفرغ للمعرفة البحتة: تنقيبًا، وجمعًا، وتصنيفًا، وتحقيقًا، وإشاعة. والتدخل الهامشي لتفادي الأخطاء، وبخاصة في مترجمات الرحالة، والمستشرقين.
وأكاد أجزم أن [الدارة] قد بذلت من الجهد المنظم، وحققت من الإنجاز ما يشهد لها بالتفوق، والتألق، ولا يقل عنها مركز الملك فيصل رحمه الله.
وتبقى فكرة [الخلوات] خطوة راشدة، توفر الأجواء الملائمة للباحثين، وحملة الهموم المعرفية.
وزيارتي لمكتبة الصديق، [أبي عاصم] بَعَثَتْ في نفسي نَشْوة التفاؤل، وتضاءل أمامها شبح الخوف من ذهاب العلم الذي يُحَذِّرُ منه المصلحون.
فالعلم لا ينتزع من صدور العلماء، ولكن العلماء يموتون، ثم لا يخلفهم من يتلقى الراية، ويأخذها بحقها. والمتشائمون يستبعدون عودة زمن العمالقة.
[الخلوات العلمية] دأب العلماء الجادين، الذين يعرفون للوقت قيمته، وللعلم مكانته. ولا سيما أن المصادر الورقية أصبحت ثانوية في ظل التقنية الدقيقة.
وعوائد [الخلوات] كثيرة، إذ لا أحد يشك في جدواها، وأثرها الحسن على الفرد، والمجتمع. والتبتل في محاريب العلم، دأبُ الجادين، الذين قد لا تتهيأ لهم مثل هذه الأجواء الملائمة، لقلة ذات اليد.
والنابهون من علمائنا الأوائل، والأوآخر خلدوا ذكرهم بما تركوه من كتب قيمة سدت فراغات معرفية، ووصلت حضارة أمتنا براهنها. ومنجزهم وليد كدح، ومثابرة، وحفظ للجهد والوقت.
ومن شاء استبانة الوعي المبكر لعلمائنا، فليقرأ كتب السير، والتراجم، والرحلة في طلب العلم، وكتب المناقب والتاريخ الحضاري لأمتنا المغموطة الحقوق، من أبنائها العققة ليرى العجب العجاب.
لقد أحْصِيَتْ الصفحات التي خَلَّفها أحد العلماء في كتبه، وموسوعاته، ووزعت على سنوات عمره، متبين أنه ينجز في كل يوم ثمان صفحات.
فماذا أبقى لسائر شؤونه؟
كما عُدَّ لـ[السيوطي] أكثر من خمسمائة كتاب، ورسالة. وتلك جهود استثنائية تدل على حفظ الوقت، وتدبيره، وأهلية الأمة العربية للتأسيس للحضارة الإنسانية.
يتبع...