د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
جاء في الحديث: "إن لنفسك حقاً". ومصداقاً للحديث الشريف يرى كثير من العلماء أن الترفيه سلوك أساسي ليس للإنسان فقط بل للكائنات الحية كافة. فالحيوانات والدلافين وغيرها تمارس الترفيه واللعب الجماعي لاسيما في مراحل العمر المبكرة. ومارس الإنسان الترفيه منذ وقت مبكر سبق ظهور مرحلة ما أسماه دارسو الإناسة "الإنسان العاقل" homosapien. ومنذ عرف الإنسان الثقافة عرف الترفيه، وكثير من الألعاب التي نراها اليوم في المسابقات الدولية، كالألعاب الأولمبية أو الرياضات المختلفة كانت في وقت ما جزءًا من ترفيه شعبي. ولا تخلو ثقافة اليوم من مهرجانات وكرنفالات ترفيهية دورية توضّح أن الترفيه جزء من طبيعة الإنسان وتكوينه النفسي. وتحرص الدول المتقدمة على التخطيط للترفيه وتوجيهه، وهناك صناعات بأكملها تعتمد على الترفيه، ومنتجات يمكن تصديرها للخارج.
الترفيه ضروري لاستقرار الإنسان النفسي وإنتاجيته في العمل. وهناك شركات كبرى ترغم الموظف على أخذ إجازة، ودول كالنمسا وبعض الدول الاسكندنافية تصرف للموظف راتبين إضافيين للإجازة وللعيد، لأنهما تدركان انعكاس ذلك على أداء العمل ونفسية المواطن. فالترفيه ليس ترفاً كما يراه البعض منا، بل حاجة للإنسان والمجتمع، وغيابه يدفع للكآبة المجتمعية، وتفشي عدم الاكتراث، والكثير من السلوكيات السلبية. ولا يمكن الترفيه عن الفرد بمزيد من الضغط عليه بما يتطلب الضبط والانضباط، لأن الترفيه وُجد أساساً للخروج من هذه الدائرة. لذا تحرص الدول على تشجيع الترفيه المفيد الذي يهذب الإنسان ويسهم في رقي مفاهيمه، كممارسة الرياضات، وارتياد المتاحف والمعارض الفنية، والحفلات الموسيقية، والسينما، ومعارض الكتب، والمهرجانات المسرحية، وغياب مثل هذه الأنشطة يدفع بالأفراد للبحث عن وسائل ترفيه أخرى بديلة قد يكون لها آثار سلبية على المجتمع والإنسان.
وليس سراً ضعف الجوانب الترفيه بمختلف أشكالها في مجتمعنا لأننا لم ننظر لها النظرة الصحيحة بل اعتبرها البعض إما مفسدة بعينها أو مفضية لمفسدة، أو مضيعة للوقت. ولذا حضرت لدينا جوانب ترفيه أخرى، في الظاهر لا تثير المخاوف والهواجس القديمة إلا أنها في عمقها أسوأ وأخطر. فحلت المخيمات الدعوية المنزوية محل المحاضرات التثقيفية، والكشتات البرية والتطعيس في الرمال محل النشاطات الهادفة للحفاظ على البيئة، وانتشر التفاخر باقتناء السلاح، والشيلات الغنائية التي تعتمد على التفاخر القبلي والاعتداد بالذات للتعويض عن الترفيه بالموسيقي. وازدهر توريد وتصنيع أدوات الرحلات البرية، وانتشرت أسلحة الصيد ومكملاتها، وأصبح القضاء على الحياة الفطرية بدون قيد أو شرط نشاطاً ترفيهياً.
والواقع أن بعض المهرجانات كمهرجان مزاين الإبل، والمخيمات الدعوية ليست سلبية في حد ذاتها ولكنها قد تحاط بنشاطات عفوية أخرى ذات طابع سلبي. بل إنه مع انتشار التفاخر بامتلاك الإبل انتشر اقتناؤها وتربيتها ومكاثرتها حتى بين أوساط حضرية لم تكن معروفة بذلك، مما تسبب في القضاء على الغطاء النباتي بسبب كثرتها، والرعي الجائر. وفاقم تشجيع ارتياد المنتزهات البرية العبث بالبيئة بشكل كبير ومقلق، وبدأ التفاخر بالفتك بالحيوانات البرية والطيور بشكل مؤسف أدى إلى انقراض بعضها.
والأخطر من ذا وذاك انتشار العنف والسلاح بين فئة المراهقين وظهور جرائم قتل مجاني إثر ممارسة العنف المسلح كمظهر من مظاهر الرجولة المفتعلة أو كما يسمى في عرف المراهقين والشباب "أخذ الحق بدق الخشوم" بدلاً من حبها ككنية للتراضي والحوار. كما ظهرت جرائم جديدة ارتكبها مراهقون وشباب في حق ذويهم وأقاربهم بشكل مريع. معظم هذه الممارسات الجرمية طارئة على مجتمعنا ومارسها شباب نشأوا في بيئة فقيرة بالترفيه والتوجيه الصحيح، حيث تركز الترفيه في الأنشطة والأفكار التطهيرية مما عمق الإحساس بالذنب لدى الشباب، ودفع ببعضهم للتطرف في اتجاهين متضادين: التطرف الديني أو التطرف الدرباوي. وعمّق الإفراط في محاولة الفصل بين الجنسين، وإبعاد الشباب من الأسواق والمولات التجارية إلى الاستراحات والمخيمات إلى تشجيع كثير من السلوكيات المسيئة.
بالأمس طعن شاب في مقتبل العمر زميله في محل تموينات وأرداه قتيلاً، وقبله أطلق شاب النار على زميل له، ومنهم من أطلق النار على والديه. وهذه جميعها حوادث جديرة بالدراسة بعمق لوضع اليد على الدوافع التي تقع خلفها. وهنا رسالة ليس لهيئة الترفيه فحسب بل للمجتمع ككل بعدم إهمال الترفيه البنّاء وإغلاق الأبواب في طريقه لأن الخيار الآخر هو ما شاهدناه ونشاهده من حولنا من عنف سواء جهاديا أو بيئيا، وما نراه من التدمير الذاتي للشباب عبر المخدرات، أو التفحيط وحوادث السيارات. ورسالة خاصة لمن يعارضون بعض جوانب الترفيه كالسينما، أو حفلات الغناء والمسارح بأنها أخف الضررين، وأن الخيار الآخر أخطر وأكثر كلفة. وليتنا ننظر للترفيه على أنه امتداد للتربية، التربية غير المباشرة ونشجع الأنشطة الترفيهية التي ترفع من ذوق الشباب، وتهذب سلوكهم، وتدعم روح التفاؤل لديهم وتشجعهم على احترام بيئتهم الاجتماعية والفطرية كيلا يلجؤوا للأنشطة التي تدعوهم للانكفاء وتعمّق عقد الذنب لديهم وتجعلهم في تنافر تام مع عصرهم، فينفسون عما في أنفسهم بتدميرها وتدمير البيئة من حولهم.