إعداد - عارف العضيلة:
من الشخصيات السعودية البارزة اجتماعياً وثقافياً واقتصادياً، هو المغفور له بإذن الله تعالى الشيخ عبد الله بن عبد العزيز الميمان، فهو أحد أبرز الرجال العصاميين في بدايات مرحلة تأسيس المملكة العربية السعودية، أحب الجميع وأحبه الجميع.
ورغم مرور سنوات طويلة على وفاته إلا أن مآثره ما تزال تُذكر وتُشكر . ويشهد له الجميع بالخير والإحسان والخلق الرفيع، وبحق تعتبر سيرته نبراساً هاماً وعلامة فخر واعتزاز لكل أبنائه وأحفاده ولكل محبيه. الشيخ عبد الله بن عبد العزيز الميمان، من رجال مرحلة تأسيس المملكة أو بداية نموها المتميزين.. حقق نجاحات كبيرة وصار أخاً ومحباً للجميع.
مولده ونشأته
وُلد الشيخ - عبد الله بن عبد العزيز الميمان في بالقصيم عام 1337هـ وهي السنة التي توفي فيها والده. وهذه سنةٌ مشهورة سميت بـ(سنة الرحمة)، لكثرة الترحُّم فيها على الأموات، حيث انتشر فيها وباءٌ قاتل انتقل فيها من مدينة إلى مدينة، ومن قرية إلى قرية، وحصد الكثير من أرواح أهلها، وخاصة الأطفال وكبار السن.
لتبدأ رحلته مع اليتم من أول خلقه، في عائلة تتكون من والدته وشقيقيه محمد وعلي، وشقيقاته منيرة وهيا ومزنة، وأخيه وأخته من أبيه تركي وسارة.. كما نشأ فقيرًا، ولقد تحملت الأمّ مسؤولية تربية وتنشئة أبنائها بعد وفاة زوجها، إذ ليس لهم معيل - بعد الله - سواها، فهي الأمّ والأب لهم. كانت تعمل صباحًا في الاحتطاب والحشّ (جمع الحشيش)، وتواصل مساءً في طحن الحبوب لبعض الأُسر حتى تستطيع تأمين احتياجات أطفالها. ولم يقرَّ لها قرار في بلدتها وبلدة زوجها، ولم تذق هي وأطفالها طعم الاستقرار، تتنقّل بأولادها بين مدينتي الخبراء وعنيزة طوال السنين الأربع التي تلت وفاة زوجها، حرصًا منها على أن تزيد في صلة أطفالها بأهلهم في عنيزة، فمرّة تزور شقيقتهم الكبرى منيرة المتزوجة من منصور العبد الله الميمان - رحمه الله -، ومرة تكون عند خالهم عبد العزيز السويح - رحمه الله -، وهكذا دواليك. إلى أن استقر بها وبأطفالها الحال في بيتٍ مستأجر اشتهر ببيت السلمان في عنيزة. ويحسن بهذه المناسبة أن نذكر أنّ تأثير تربية هذه الأم اللينة من غير ضعف، والحازمة من غير عنف، على أولادها استمرّ حتى بعد أن كبروا وتزوَّجوا وصار لهم أولاد، فقد كانت تتابع حالهم وتسألهم عن أعمالهم وتحفظ لهم أموالهم.
العمل في الصِّغر
ومع تراكم هذه الظروف القاسية، أدرك الصبيُّ واجبه في السعي للبحث عن عمل يكفل له ولوالدته لقمة العيش، حيث كان الفقر يضرب أطنابه في معظم مناطق نجد والقصيم في تلك الحقبة من الزمن، فعمل مع شقيقه (علي) في سوق القصاصيب (باعة اللحم)، يجني وأخوه منه القليل من المال، والقليل من بقايا ما يُذبح من جلد وكرعان وغيرها.. وفي صورٍ تعكس مقدار الفقر والفاقة اللذين يحيطان بهذه الأسرة، واصل الغلامان عملهما بجدٍّ وصبرٍ وتشجيعٍ من هذه الأمّ الصالحة في نفسها، الصارمة المربية لأولادها. إلى أن بدأ هاجس الهجرة لطلب العيش يجول في خاطريهما كما فعل أخوهما الكبير من قبلهما.
في مكة المكرمة
وبحثاً عن الرزق هاجر برفقه بعض أقاربه إلى مكة، وفي مكة المكرمة بدأ حياة جديدة كلَّ الجدة، رحلة العمل في هذه المدينة المقدسة، المليئة بالألوان والأطياف، بهرته تلك الحياة الجديدة بما تحويه من تنوّع لم يعتدْ عليه، تنوّعت أمامه ألوان الناس وأجناسهم ولغاتهم وأعراقهم، وتنوعت ملابسهم ومآكلهم وعاداتهم، أمور لم يعرفها ولم تر عينه مثلها، ولم يتطرَّق إلى فكره أنها في الوجود. لم يعتد أن يرى هذا الغلام الساذج في تلك المدينة الصغيرة التي عاش بها طفولته وصباه، سوى أسرة واحدة تلبس لباسًا واحدًا وتأكل من طعاماً واحداً. وليس أدلَّ على صعوبة هذه التجربة الجديدة من أنه لم يعمل في أول وظيفة استلمها في مكة سوى ثلاثة أيام. وذلك عندما عمل صبيًّا عند إحدى الأسر المكية، فسمع من ربة بيت هذه الأسرة كلماتٍ لم ترُق له، ولم يستسغها سمعه، فغادر ذلك البيت على وجه السرعة دون رجعة.
ثم التحق بالعمل مع زوج أخته: علي السليمان الميمان - رحمه الله - أجيرًا في دكان الصرافة التابع له، وكان ذلك لعدة سنوات، عمل خلالها في سقاية البيوت بالماء.
ثم انتقل إلى العمل في (الكراج) الملكي التابع لسيارات الملك عبد العزيز - رحمه الله - سائقًا فيها أولاً، ثم ميكانيكيًّا، ثم مندوبًا للمشتريات. وكان يرأس هذا (الكراج) في بداية عمله ابن عثمان، ثم ابن فوزان. وفي تلك السنوات تزوّج زواجه الأول من: موضي بنت محمد العلي الناجم - رحمها الله -، ثم سافر إلى عنيزة وأحضر والدته وسكن مع أمّه وزوجته في بيت مستأجر في شعب عامر في جبل عبد الخير. إلا أنه طلّق زوجته بعد ما يقارب السنوات الست، وتزوَّج بعدها والدة كبار أولاده: شمّا بنت علي العبيّد النفيسة - رحمها الله -، وبقيت معه طوال حياتها.
ولقد كان لعمله هذا أثره في تحديد مسار حياته واتجاهه حتى مرحلة متأخرة من حياته. فكانت تجارة السيارات بداية الانطلاق إلى حياة مختلفة ميسورة.
وبما توفّر لديه من مال، اشترى أجزاء سيارات متفرقة، وأعاد تجميعها وتشغيلها في سيارة واحدة، وعمل عليها بين القصيم ومكة والرياض، ممّا زاد في اطلاعه وتعرُّفه على هذه المهنة وأدواتها. فافتتح بعد فترة وجيزة معرض سيارات، وذلك في حدود عام 1370هـ بمكة، وبالتحديد في شارع عين زبيدة، وجعل معرضه على أرضٍ سمِّي المعرض باسم مالكها، فكان اسمه: (معرض عريميش). واشترى في هذه الأثناء أربع سيارات (ماكات) وهي شاحنات نقل كبيرة. إلا أنّ هذا المعرض لم يكن معرضًا رسميًّا مصرَّحًا، ولم يكن ما يحويه في غالبه ممّا يملكه. إلا أنه وفي عام 1377هـ تطورت تجارته بالسيارات وافتتح مع أخيه (علي) - رحمه الله - معرضًا مصرَّحًا من الجهات المعنية، وأسماه: (معرض العتيبية للسيارات). وفي هذا المعرض التجاري الوحيد في مكة المكرمة حصل على وكالات سيارات مختلفة الصناعات والمنشأ، وكان يستورد أفخم أنواع السيارات ذات الصناعات الألمانية والأمريكية من بيروت وقطر وميناء أسمرة، وكان معاملوه والمشترون منه من مختلف مناطق المملكة، هم من التجار وذوي المناصب والهيئات. وصار له اسمٌ ذائع، وصيت مستحقٌّ، بما حباه الله من حسن تعامل مع الآخرين. وفي أوائل الثمانينات تزوج من: مضاوي بنت ناصر العقيل وقد بقيت معه ما يزيد عن العام. وفي حدود عام 1383هـ تزوَّج من: لولوة بنت علي العبد العزيز (الكاينات) الميمان. وبقيت معه إلى أن توفاه الله.
واستمرّ المترجم في تجارة السيارات وتوزيعها، حتى عام 1395هـ تقريبًا عندما اتَّجه إلى التجارة في العقارات، وتركّز نشاطه في حي العتيبية وجرول، يشتري البيوت القديمة ويهدمها وينشئ على أراضيها عماراتٍ حديثة ذات مواصفات عالية.
أصدقاؤه
كان للمترجم - رحمه الله - أصدقاء كُثُر. فقد كانت حياته الغنية في مكة المكرمة وعلاقاته واتصالاته وتجارته في السيارات وفي العقارات، مدعاةً لنموّ هذه الصداقات, وكان بيته ومعرضه ومكتبه مفتوحة كلها للزائرين، لما منّ الله عليه من كرم الضيافة وحسن الاستقبال. ومِن أكثر مَنْ اتصل به وصاحبه طوال حياته:
- الشيخ/ إبراهيم العبد الله الموسى الطاسان -رحمه الله-. وكان من أقرب أصدقائه إليه وأعزّهم عليه.
- الشيخ/ رشيد البقمي -رحمه الله-.
- الشاعر المعروف/ عبد الله اللويحان -رحمه الله-.
- الشيخ/ ناصر النويصر -رحمه الله-.
- الشيخ/ عبد الله السماعيل الحصين -رحمه الله-.
- الشيخ/ عثمان الحمد القاضي -رحمه الله-.
- الشيخ/ منصور الكريديس -رحمه الله-.
- التاجر المعروف/ دغش بن طلال القحطاني -رحمه الله-.
- الشيخ/ سعد بن قطيم القحطاني -رحمه الله-.
- الشيخ/ عليان العبد الله العليان -حفظه الله-.
تعليمه
لقد كان انتشار التعليم في منطقة القصيم ضعيفًا في تلك المرحلة، ووجود أهل العلم كان شحيحًا، فكان المتعلمون قلة فضلاً عن العلماء. وكانت الأمّية متفشية بين عموم الناس، والحركة الثقافية محدودة، وكان التعليم بدائيًّا في أساليبه ومحصورًا في العلوم الدينية والشرعية.
كانت بدايته مع التعليم - رحمه الله - منذ السابعة من عمره، حيث حفظ البعض من سور القرآن الكريم في الكتاتيب - المدارس غير النظامية - لدى الشيخ عبد الرحمن بن علي الرُّشيد والشيخ مقبل بن حمد المقبل (المطوع) - رحمهما الله -، ولكن رغم حبه للعلم والمعرفة, إلا أنه ترك المواظبة على حضور الكتاتيب منذ ما يقارب التاسعة من عمره، ليعمل ويساعد في إعالة أسرته. وفي هذا السياق يذكر المترجم -رحمه الله- كيف كانت تصنع مستلزمات الدرس، فيقول: كانت مستلزماتنا للدرس تصنع جميعها من الأدوات المتوفرة في الطبيعة، وهي لوحٌ خشبيٌّ ودواة وهي الحبر، وعودٌ خشبيٌّ للكتابة، ونوعٌ خاصٌّ من الطين، يستخدم في مسح اللوح. كما يذكر -رحمه الله- بأن معلّمي تلك الفترة كانوا لا يشترطون أي مبالغ لتعليم الطلاب، وإنما يكتفون بما كانت تجود به لهم أسر الطلبة مثل فطرة شهر رمضان، أو شيء من الأضحية أو قليل من المال يدفع سنويًّا.
وبعد انتقاله - رحمه الله - إلى مكة المكرمة وبدئه العملَ في تجارة السيارات والعقار، ولإحساسه بحاجته لتحسين قدراته في القراءة والكتابة والحساب، فقد أخذ دروسًا خاصة في مكتبه عامي 1386 و 1387هـ على يد المعلم حسن الفلسطيني، ليستكمل ما بدأه من تعلُّم القراءة والكتابة والحساب.
مرضه ووفاته
لقد حدّت إصابته - رحمه الله تعالى - بداء السّكري والضغط، من حركته ومشيه ونشاطه، ومنعته من مباشرته لأعماله وتجارته في السنين السبع الأخيرة من حياته, حتى آخر شهرين من عمره حين أثقل عليه المرض فأصيب بانفجار حادٍّ في الشريان التاجي وفشل كلوي، وفاضت روحه إلى بارئها مع رفع الأذان الأول لظهر يوم الجمعة الموافق 26-3-1423هـ، بمستشفى علوي تونسي وإخوانه بمكة، عن عمر يناهز ستة وثمانين عاماً، وصلّي عليه في المسجد الحرام بمكة المكرمة بعد عصر يوم السبت 27-3-1423هـ، وأمَّ المصلين عليه فضيلة الشيخ الدكتور/ أسامة بن عبد لله خياط، ودفن بمقبرة العدل بمكة المكرمة، فرحمه الله ورضي عنه وأسكنه الفردوس الأعلى من الجنة مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا، آمين.
صفاته
«نفسُ عصامٍ سوَّدت عصامًا». إنّ المترجم الشيخ/ عبد الله الميمان -رحمه الله- كان عصاميًّا بكل ما تعنيه هذه الكلمة، فقد اتَّكل على ربّه تعالى وبنى لنفسه ولحياته هذا الطريق الحقيق بالإعجاب، حيث وُلد وعاش طفولته يتيمًا فقيرًا، وتمكَّن أخيرًا ـ بعون الله ـ من الوصول إلى ما وصل إليه. فإذا كانت الشجاعة تقاس في الأزمنة الغابرة بالسيف والرّمح والخيل، فإنها في هذا الزمان، تتجلى في القدرة على مواجهة الحياة وصعوباتها.
ثم إنه كان - رحمه الله - كريمًا صاحب عطاء لا ينفد، يذكر عارفوه أنّ بيته لم يخل من ضيف في أحد الأيام، حتى إن مائدة الطعام تقدَّم للوجبة الواحدة مرتين وثلاثًا. ولم يكن كرمه خاصًّا بضيوفه من أقربائه وأصدقائه، بل يتعدَّى ذلك العطاء على من يعرفه ومن لا يعرفه من الفقراء والمساكين والغارمين وذوي الحاجات. فقد زار أهلَه وأولاده في عزائه أُناس كثيرون لا يعرفونهم، ذكروا أنهم كانوا ممّن يعتاشون على عطاياه وصدقاته.
وليس كلُّ من يعطي هذه الهبات ويتصدق بتلك الصدقات بمحصِّلٍ للمقصود، إذا ما صاحب صدقاته منٌّ وأذى. إلا أنّ المترجم - رحمه الله - قد ضرب المثل الأمثل والأعلى في حسن الخلق وكرم النفس، يعطي فتظنه هو المُعطى، ويمنح فتحسبه هو الممنوح، يتبسّم للفقير ويعطف على المسكين. وقد كان من حسن خلقه -رحمه الله- أنه لا يؤاخذ من جفاه، ولا يعاتب من آذاه، ولا يعادي من عاداه. يصل من قطعه، ويدفع بالتي هي أحسن.