لا تزال ذاكرة الأغنية السعوديّة تحفل بمنجزات «قيثارة الشرق» الفنان الراحل طلال مداح، رغم مضيّ أكثر من 16 عامًا على رحيله، إذ يُعد طلال أيقونة بارزة في فضاء الفن السعودي، وظل كذلك حتى في زمن ما يُعرف بـ»الصحوة» التي بدأت في ثمانينيات القرن الماضي، وغيّرت الكثير من ملامح الفن الموسيقي داخل الجزيرة العربية، ومارست ضغوطًا متعددة على الفنانين وحفلاتهم الغنائيّة.
الحديث عن قيثارة العرب يعني الحديث عن ذاكرة الأغنية السعوديّة برمّتها؛ طلال لم يكن مجرد صوت استثنائي فحسب، بل كان إنسانًا قبل ذلك كلّه، وأستاذًا لم يبخل بدعم الفنانين الشبّان آنذاك، وأثّر بتجربته الثريّة في العديد من الأصوات التي تميّزت بعده، كخالد عبد الرحمن وعبادي الجوهر ومحمد عبده وابتسام لطفي وعتاب وعبد المجيد عبد الله ورابح صقر، تارة يقدم لحنًا، وتارة يُنتج ألبومًا، وتارات أخرى يرشدهم ويمنحهم التوجيهات لتحقيق التطور الفني وتجاوز الكبوات المرحليّة.
صوت الأرض كان صوتًا وطنيًا بامتياز، ولم يغب عن المهرجانات والفعاليّات الوطنيّة منذ نهاية ثمانينيات القرن الماضي، ومنذ ذلك التاريخ كانت مشاركاته في «الجنادريّة» منتظمة، وأصدر سبعة ألبومات تضم أغاني وطنية هي عز الوطن، صرخة، عشب الفخر، ديرتي، تعيشي يا سعودية، وطني الحبيب، موحدين، وشارك في أبريت «ما ننساك يا أمير الشباب» تأبينًا للأمير الراحل فيصل بن فهد الذي كان على علاقة وثيقة بطلال مداح.
وإسهامات طلال لم تقتصر على الأغاني الوطنية، بل كان رائدًا أيضًا في تقديم أول أغنية عاطفيّة سعوديّة مسجلة للإذاعة في نهاية خمسينيات القرن الماضي، وهي أغنية «وردك يا زارع الورد» والتي لحّنها بنفسه وأعانه على تسجيلها عباس غزاوي المسؤول عن الإذاعة آنذاك، وكان الصوت السعودي الأول الذي نافس على المستوى العربي كوكب الشرق أم كلثوم والموسيقار محمد عبد الوهاب، ليس في الداخل فحسب، بل وحتى في مصر التي احتضنت حفلة غنائيّة له عام 1973 والتي غنّى من خلالها أغنيته الخالدة «مقادير» وحضرها أكثر من 40 ألفًا في استاد نادي الترسانة بالقاهرة، وأذيعت له أغنيات متعددة من لندن ودمشق وإذاعات عربية من ألمانيا وهولندا، وترجم له التلفزيون الفرنسي أغنيته «وعد».
استثنائيّة قيثارة الشرق بدت واضحة في شهادات معاصريه، وقال الأمير الراحل محمد العبد الله الفيصل إنّ تاريخ الأغنية السعودية كُتبت على يد طلال مداح واشتهرت بفضله رغم محاولات من سبقوه، وأشار الأمير بدر بن عبد المحسن إلى أنّ طلال كان له الدور البارز في تجاوز الأغنية المحليّة نطاق الوطن لتصل إلى العالم العربي بأكمله، ووصفه الفنان محمد عبده رغم السجال المفتعل بينهما بأنه رجل الأغنية السعودية الأول وأصلها.
سيظل طلال حاضنًا بصوته العذب ذاكرة الأغنية السعوديّة، وستبقى ألحانه المستقاة من حسّه المرهف وأدائه الرفيع أنموذجًا للأجيال الموسيقيّة الجديدة، وقبل هذا وذاك ستستمر سيرته العطرة، الحافلة بالمواقف النبيلة والأخلاق السمحة، خالدة في أذهان من تعلّموا منه كيف يصل الإحساس إلى القلب قبل الآذان.
ياسر صالح البهيجان - ماجستير في النقد والنظرية