«الجزيرة» - أحمد المغلوث:
والدي كان في فترة من الزمن لديه شركة في الخفجي ويقيم فيها إقامة دائمة مع الوالدة -رحمهما الله- وكنا نذهب إليه في الإجازات مع أشقائي وشقيقاتي. وكان يستعد لزيارتنا بإقامة مخيم في البر على بعد مسافة من السفانية وكان مشهد الربيع في هذه المنطقة مشهدًا جميلاً، بل رائعًا. أما الأجمل عندما كنا نسمع الوالد يردد علينا وبعد استيقاظنا من النوم والصلاة جماعة. كان يقول وهو في قمة سعادته. انتشروا. بعد أن يسلم لكل منا أعوادًا خيزرانية لتسهيل عملية البحث عن «الفقع» الكماة. مع التأكيد على كل من يحضر حبة «فقع» فله خمسة ريالات.. وكانت الريالات الخمسة أيامها أشبه بالخمسين ريالاً اليوم وربما أكثر. وكان -رحمه الله- منحازًا لشقيقاتي كونه يمنحن عشرة ريالات لكل حبة «فقع» وعلى الرغم من اعتراضاتنا الشديدة إلا أنه كان يصر على ما اتخذه من قرار وتحيز؟! ومع هذا كنا لا نخفي سعادتنا ونحن نتراكض ونتسابق في البر الربيعي الذي تناثرت فيه مختلف الشجيرات وزهور الربيع حتى الخزامى كان التنافس عن أهم أنواع الزهور التي تتفتح مع بداية فصل الربيع: شقائق النعمان، بخور مريم، أو السكوكع، النرجس، البريو، الخرفيش والعرفج والبسباس كذلك القُنْديل. وعشرات من الورود والزهور المختلفة.. التي تبرز عطاء الخالق في هذه الأرض الطيبة.. وكانت أروع اللحظات عندنا حين يهطل المطر، وهو ينهمر نعود راكضين إلى داخل المخيم ولنمسي رهائن الخيام. ولكن كانت أجواء الأسرة ورعاية الوالدين واهتمامهما بنا يمسح عن قلوبنا الهموم. وإخفاقات البعض منا في عدم العودة للمخيم حاملاً معه ما استطاع العثور عليه من حبات «الفقع» وكانت لحظات ارتطام المطر على سقف الخيام وما يحدثه من إيقاع طوال ساعات المطر. تلوب على بعضنا أفكار كثيرة. تجعلنا أكثر حميمة لبعض وتشعرنا بقيمة الأسرة وجميع أفرادها عندما يكونون تحت رعاية أبوين صالحين وطيبين.
يا الله كم هي رائعة تلك اللحظات ونحن نستمع لأحاديث أو لنقل «سوالف» الوالدة عن الفقع وتكشف لنا معلومات لم نسمع بها، فنحن ما زلنا فتية. صحيح كنا أيامها نقرأ ما يتوفر لدينا من مجلات. ميكي وسندباد وبساط الريح. حتى مجلدات حمزة البهلوان والظاهر بيبرس كنا ننام وهي بجوارنا.. ومع هذا كان لسوالف الوالدة طعم آخر مميز. بل إنها وعلى الرغم من أنها خريجة «المطوعة» لكنها تذكر حكايات جدتي رحمها الله التي كانت تجيد الحكايات والحزاوي بصورة فريدة. ومنها ما ذكرته لنا الوالدة عن حكاية الفقع ولا أعرف مدى صحة ما سمعته. أن الفقع هو هبة من الله سبحانه وتعالى لإِنسانة كان لا يوجد لديها لحم وهي تقيم في خيمة في الصحراء وكانت تريد أن تطبخ لأولادها طعامًا شهيًا ولذيذًا يعوضهم عن اللحم. فتمنت في نفسها ذلك. وما هي إلا ساعة من الزمن وهي ترعى مع غنيماتها حول خيمتها إذا بها تشاهد «فقعة» كبيرة. ولم تتردد أن تعد طعام أولادها معتمدة على هذه «الفقعة» الكبيرة بعدما قامت بتقطيعها إلى قطع صغيرة.. وكم كانت دهشتها عظيمة بعدما ردد ولداها: أحسن أكل أكلناه يا يمة..؟!
وفي السنوات الأخيرة بات الفقع من السهولة الحصول عليه إلا لمن يعتبر البحث عنه نوعًا من المتعة والتسلية. فهو الآن موجود كفقع أجنبي وعربي. يصل طازَجًا بالطائرات. إضافة إلى إنتاج أرضنا الطيبة من خير ربيع الوطن حيث يستطيع العارف بالفقع ومزاياه وأنواعه أن يكتشف الفقع السعودي من المغربي أو الليبي أو حتى الجزائري.. ويتوافر في المجمعات التجارية التي تبيع المواد الغذائية والاستهلاكية. فقع (كماة) معلبة قادمة من دول الغرب. خصوصًا فرنسا وبلجيكا وإيطاليا وإسبانيا حيث تعد وجبة الفقع في هذه الدول وفي أرقى مطاعمها من أغلى الأطباق التي يقبل عليها الأثرياء والميسورون.